فصل: مَعَابِد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


مَطْل

التّعريف

1 - المَطْل لغةً‏:‏ المدافعة عن أداء الحقّ‏,‏ قال الجوهري‏:‏ وهو مشتق من مطلت الحديدة‏:‏ إذا ضربتها ومددتها لتطول‏,‏ ومنه يقال‏:‏ مطله بدينه مطلاً‏,‏ وماطله مماطلةً‏:‏ إذا سوّفه بوعد الوفاء مرّةً بعد أخرى‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ حكى النّووي وعلي القاري أنّ المطل شرعاً‏:‏ منع قضاء ما استحقّ أداؤه‏,‏ قال ابن حجرٍ‏:‏ ويدخل في المطل كل من لزمه حق‏,‏ كالزّوح لزوجته‏,‏ والحاكم لرعيّته‏,‏ وبالعكس‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإنظار‏:‏

2 - الإنظار والنّظِرَة في اللّغة الإمهال والتّأخير‏,‏ يقال‏:‏ أنظرت المدين‏,‏ أي أخّرته‏,‏ وذكر الأزهري أنّ المراد بالنّظرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ‏}‏ الإنظار والإمهال إلى أن يوسر‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة بين المطل والإنظار التّأخير في كلٍّ‏,‏ لكنّه في المطل من جانب المدين وفي الإنظار من جانب الدّائن‏.‏

ب - التّعجيل‏:‏

3 - التّعجيل لغةً‏:‏ الإسراع بالشّيء‏,‏ يقال‏:‏ عجّلت إليه المال أسرعت إليه بحضوره‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة بين المطل والتّعجيل الضّدّيّة‏.‏

‏(‏ر‏:‏ تأخير ف 5‏)‏‏.‏

ج - الظلم‏:‏

4 - الظلم لغةً‏:‏ وضع الشّيء في غير موضعه‏.‏

واصطلاحاً هو عبارة عن التّعدّي عن الحقّ إلى الباطل‏,‏ وهو الجور‏.‏

والصّلة بين المطل والظلم أنّ الظلم أعم من المطل‏.‏

الحكم التّكليفي

5 - يختلف حكم المطل باختلاف حال المدين من يسرٍ أو عسرٍ‏.‏

فإن كان موسراً قادراً على قضاء الدّين بعد المطالبة به كان مطله حراماً‏,‏ وذلك لما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ «مطل الغنيّ ظلم»‏.‏

وإن كان المدين معسراً لا يجد وفاءً لدينه أو كان غنياً ومنعه عذر - كغيبة ماله - عن الوفاء لم يكن مطله حراماً وجاز له التّأخير إلى الإمكان‏.‏

صور المطل

للمطل صور تختلف أحكامها باختلاف صوره‏,‏ وذلك على التّفصيل الآتي‏:‏

أوّلاً‏:‏ مطل المدين المعسر الّذي لا يجد وفاءً لدينه

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يمهل حتّى يوسر‏,‏ ويُترك يطلب الرّزق لنفسه وعياله والوفاء لدائنيه‏,‏ ولا تحل مطالبته ولا ملازمته ولا مضايقته‏,‏ لأنّ المولى سبحانه أوجب إنظاره إلى وقت الميسرة فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ‏}‏‏.‏

قال ابن رشدٍ‏:‏ لأنّ المطالبة بالدّين إنّما تجب مع القدرة على الأداء‏,‏ فإذا ثبت الإعسار فلا سبيل إلى المطالبة‏,‏ ولا إلى الحبس بالدّين‏,‏ لأنّ الخطاب مرتفع عنه إلى أن يوسر‏.‏

وقال الشّافعي‏:‏ لو جازت مؤاخذته لكان ظالماً‏,‏ والفرض أنّه ليس بظالم لعجزه‏,‏ بل إنّ ابن العربيّ قال‏:‏ إذا لم يكن المديان غنياً‏,‏ فمطله عدل‏,‏ وينقلب الحال على الغريم‏,‏ فتكون مطالبته ظلماً‏,‏ لأنّ اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ‏}‏‏.‏

وأجاز الحنفيّة ملازمة الدّائن لمدينه المعسر مع استحقاقه الإنظار بالنّصّ‏.‏

وقد بيّن المصطفى صلى الله عليه وسلم فضل إنظار المعسر وثوابه عند اللّه تعالى‏,‏ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏,‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من أنظر معسراً أو وضع له أظلّه اللّه يوم القيامة تحت ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلا ظله»‏.‏

واختلف الفقهاء في المدين المعسر إذا لم يكن القدر الّذي استحقّ عليه حاضراً عنده‏,‏ لكنّه قادر على تحصيله بالتّكسب مثلاً‏,‏ هل يجب عليه ذلك أم لا‏؟‏ قال الحافظ ابن حجرٍ‏:‏ أطلق أكثر الشّافعيّة عدم الوجوب‏,‏ وصرّح بعضهم بالوجوب مطلقاً‏.‏

وفصّل آخرون بين أن يكون أصل الدّين يجب بسبب يعصي به فيجب‏,‏ وإلا فلا‏.‏

كما اختلفوا في هل يجبر المدين المعدم على إجارة نفسه لوفاء دين الغرماء من أجرته إن كان قادراً على العمل أم لا‏؟‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏إفلاس ف 55‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ مطل المدين الغنيّ الّذي منعه العذر عن الوفاء

7 - مطل المدين الغنيّ الّذي منعه العذر عن الوفاء‏,‏ كغيبة ماله وعدم وجوده بين يديه وقت الوفاء بغير تعمده فلا يكون مطله حراماً‏,‏ وذلك لأنّ المطل المنهيّ عنه كما قال الحافظ ابن حجرٍ‏:‏ تأخير ما استحقّ أداؤه بغير عذرٍ‏,‏ وهو معذور‏.‏

ثالثاً‏:‏ مطل المدين الموسر بلا عذرٍ

8 - مطل المدين الموسر القادر على قضاء الدّين بلا عذرٍ وذلك بعد مطالبة صاحب الحقّ‏,‏ فإنّه حرام شرعاً‏,‏ ومن كبائر الإثم‏,‏ ومن الظلم الموجب للعقوبة الحاملة على الوفاء‏,‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مطل الغنيّ ظلم»‏,‏ قال ابن حجرٍ‏:‏ المعنى أنّه من الظلم‏,‏ وأطلق ذلك للمبالغة في التّنفير من المطل‏,‏ وقال ابن العربيّ‏:‏ مَطل الغنيّ ظلم إذا كان واجداً لجنس الحقّ الّذي عليه في تأخير ساعةٍ يمكنه فيها الأداء‏,‏ وقال الباجيّ‏:‏ وإذا كان غنياً فمَطَلَ بما قد استحقّ عليه تسليمه فقد ظلم ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لي الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته»‏,‏ ومعنى يحل عرضه‏:‏ أي يبيح أن يذكره الدّائن بين النّاس بالمطل وسوء المعاملة‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ ولا نزاع بين العلماء في أنّ من وجب عليه حق من عينٍ أو دينٍ‏,‏ وهو قادر على أدائه‏,‏ وامتنع منه‏,‏ أنّه يعاقب حتّى يؤدّيه‏.‏

والعقوبة الزّاجرة هي عقوبة تعزيريّة غير مقدّرةٍ شرعاً‏,‏ المقصود منها حمله على الوفاء وإلجاؤه إلى دفع الحقّ إلى صاحبه دون تأخيرٍ‏.‏

أما قبل الطّلب‏,‏ فقد وقع الخلاف في مذهب الشّافعيّ‏:‏ هل يجب الأداء مع القدرة من غير طلب صاحب الحقّ‏,‏ حتّى يعدّ مطلاً بالباطل قبله‏؟‏ وحكى ابن دقيق العيد فيه وجهان‏,‏ ومال الحافظ ابن حجرٍ إلى ترجيح عدم الوجوب قبل الطّلب‏,‏ لأنّ لفظ ‏"‏ المطل ‏"‏ في الحديث يشعر بتقديم الطّلب وتوقف الحكم بظلم المماطل عليه‏.‏

وذكر بعض الفقهاء أنّ المطل يثبت بالتّأجيل والمدافعة ثلاث مرّاتٍ‏.‏

حمل المدين المماطل على الوفاء

نصّ الفقهاء على طرقٍ تتّبع لحمل المدين المماطل على الوفاء‏,‏ منها‏:‏

أ - قضاء الحاكم دينه من ماله جبراً‏:‏

9 - إذا كان للمدين المماطل مال من جنس الحقّ الّذي عليه‏,‏ فإنّ الحاكم يستوفيه جبراً عنه‏,‏ ويدفعه للدّائن إنصافاً له‏,‏ جاء في الفتاوى الهنديّة‏:‏ المحبوس في الدّين إذا امتنع عن قضاء الدّين وله مال فإن كان ماله من جنس الدّين‏,‏ بأن كان ماله دراهم والدّين دراهم‏,‏ فالقاضي يقضي دينه من دراهمه بلا خلافٍ‏.‏

وقال القرافي‏:‏ ولا يجوز الحبس في الحقّ إذا تمكّن الحاكم من استيفائه‏,‏ فإن امتنع من دفع الدّين‏,‏ ونحن نعرف ماله أخذنا منه مقدار الدّين‏,‏ ولا يجوز لنا حبسه‏.‏

ب - منعه من فضول ما يحل له من الطّيّبات‏:‏

10 - قال ابن تيميّة‏:‏ لو كان قادراً على أداء الدّين وامتنع‏,‏ ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنّكاح فله ذلك‏,‏ إذ التّعزير لا يختص بنوع معيّنٍ‏,‏ وإنّما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره‏,‏ إذا لم يتعدّ حدود اللّه‏.‏

ج - تغريمه نفقات الشّكاية ورفع الدّعوى‏:‏

11 - قال ابن تيميّة‏:‏ ومن عليه مال‏,‏ ولم يوفّه حتّى شكا رب المال‏,‏ وغرم عليه مالاً‏,‏ وكان الّذي عليه الحق قادراً على الوفاء‏,‏ ومطل حتّى أحوج مالكه إلى الشّكوى‏,‏ فما غَرِمَ بسبب ذلك‏,‏ فهو على الظّالم المماطل‏,‏ إذا كان غرمه على الوجه المعتاد‏.‏

د - إسقاط عدالته ورد شهادته‏:‏

12 - حكى الباجيّ عن أصبغ وسحنونٍ من أئمّة المالكيّة أنّهم قالوا بردّ شهادة المدين المماطل مطلقاً‏,‏ إذا كان غنياً مقتدراً‏,‏ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّاه ظالماً في قولـه‏:‏ «مطل الغنيّ ظلم»‏,‏ ونقل الحافظ ابن حجرٍ عن جمهور الفقهاء أنّ مقترف ذلك يفسّق‏.‏

ولكن هل يثبت فسقه وترد شهادته بمطله مرّةً واحدةً‏,‏ أم لا ترد شهادته حتّى يتكرّر ذلك منه ويصير عادةً‏؟‏

قال النّووي‏:‏ مقتضى مذهبنا اشتراط التّكرار‏,‏ وقال السبكي‏:‏ مقتضى مذهب الشّافعيّة عدمه‏,‏ واستدلّ بأن منع الحقّ بعد طلبه‏,‏ وابتغاء العذر عن أدائه كالغصب‏,‏ والغصب كبيرة‏,‏ وتسميته في الحديث ظلماً يشعر بكونه كبيرةً‏,‏ والكبيرة لا يشترط فيها التّكرار‏,‏ نعم لا يحكم عليه بذلك إلا بعد أن يظهر عدم عذره‏.‏

وقال الطّيبيّ‏:‏ قيل‏:‏ يفسق بمرّة‏,‏ وترد شهادته‏,‏ وقيل‏:‏ إذا تكرّر‏,‏ وهو الأولى‏.‏ واختلفوا هل يفسق بالتّأخير مع القدرة قبل الطّلب أم لا‏؟‏ قال ابن حجرٍ‏:‏ الّذي يُشْعِرُ به حديث الباب التّوقف على الطّلب‏,‏ لأنّ المطل يشعر به‏.‏

هـ - تمكين الدّائن من فسخ العقد الموجب للدّين‏:‏

13 - نصّ أكثر فقهاء الحنابلة‏,‏ على أنّ من حقّ الدّائن عند مطل المدين بغير عذرٍ أن يفسخ العقد الّذي ترتّب عليه الدّين كالبيع ونحوه‏,‏ ويسترد البدل الّذي دفعه‏,‏ وقد جعل له هذا الخيار في الفسخ ليتمكّن من إزالة الضّرر اللاحق به نتيجة مطل المدين ومخاصمته‏,‏ وليكون ذلك حاملاً للمدين المقتدر على المبادرة بالوفاء‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ ولو امتنع - أي المشتري - من دفع الثّمن مع يساره فلا فسخ في الأصحّ‏,‏ لأنّ التّوصل إلى أخذه بالحاكم ممكن‏.‏

و - حبس المدين‏:‏

14 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّ المدين الموسر إذا امتنع من وفاء دينه مطلاً وظلماً‏,‏ فإنّه يعاقب بالحبس حتّى يؤدّيه‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏حبس ف 79 وما بعدها‏)‏‏.‏

ونقل ابن سماعة عن محمّدٍ في المحبوس بالدّين إذا علم أنّه لا مال له في هذه البلدة‏,‏ وله مال في بلدةٍ أخرى‏,‏ فيؤمر رب الدّين أن يخرجه من السّجن‏,‏ ويأخذ منه كفيلاً بنفسه على قدر هذه المسافة‏,‏ ويؤمر أن يخرج ويبيع ماله ويقضي دينه‏,‏ فإن أخرج من السّجن‏,‏ فلم يفعل ذلك‏,‏ أعيد حبسه‏.‏

وقال ابن تيميّة‏:‏ ومن حبس بدين‏,‏ وله رهن لا وفاء له غيره‏,‏ وجب على ربّ الدّين إمهاله حتّى يبيعه‏,‏ فإن كان في بيعه وهو في الحبس ضرر عليه‏,‏ وجب إخراجه ليبيعه‏,‏ ويضمن عليه‏,‏ أو يمشي معه الدّائن أو وكيله‏.‏

ز - ضرب المدين المماطل‏:‏

15 - قال ابن قيّم الجوزيّة‏:‏ لا نزاع بين العلماء أنّ من وجب عليه حق من عينٍ أو دينٍ‏,‏ وهو قادر على أدائه‏,‏ وامتنع منه‏,‏ أنّه يعاقب حتّى يؤدّيه‏,‏ ونصوا على عقوبته بالضّرب‏,‏ ثمّ قال معلّقاً على حديث‏:‏ «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته»‏:‏ والعقوبة لا تختص بالحبس‏,‏ بل هي في الضّرب أظهر منها في الحبس‏.‏

وجاء في شرح الخرشيّ‏:‏ إنّ معلوم الملاءة إذا علم الحاكم بالنّاضّ الّذي عنده‏,‏ فإنّه لا يؤخّره‏,‏ ويضربه باجتهاده إلى أن يدفع‏,‏ ولو أدّى إلى إتلاف نفسه‏,‏ ولأنّه مُلِدٌّ‏.‏

ح - بيع الحاكم مال المدين المماطل جبراً‏:‏

16 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الحاكم يبيع مال المدين المماطل جبراً عليه وذلك في الجملة‏.‏ غير أنّ بينهم اختلافاً في تأخيره عن الحبس‏,‏ أو اللجوء إليه من غير حبس المدين‏,‏ أو ترك الخيار للحاكم في اللجوء إليه عند الاقتضاء على أقوالٍ‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ المحبوس في الدّين إذا امتنع عن قضاء الدّين - وله مال - فإن كان ماله من جنس الدّين‏,‏ بأن كان ماله دراهم والدّين دراهم‏,‏ فالقاضي يقضي دينه من دراهمه بلا خلافٍ‏,‏ وإن كان ماله من خلاف جنس دينه‏,‏ بأن كان الدّين دراهم وماله عروضاً أو عقاراً أو دنانير‏,‏ فعلى قول أبي حنيفة لا يبيع العروض والعقار‏,‏ وفي بيع الدّنانير قياس واستحسان‏,‏ ولكنّه يستديم حبسه إلى أن يبيع بنفسه ويقضي الدّين‏,‏ وعند محمّدٍ وأبي يوسف يبيع القاضي دنانيره وعروضه روايةً واحدةً‏,‏ وفي العقار روايتان‏.‏

وفي الخانيّة‏:‏ وعندهما في روايةٍ‏:‏ يبيع المنقول وهو الصّحيح‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ المدين إن امتنع من دفع الدّين‏,‏ ونحن نعرف ماله‏,‏ أخذنا منه مقدار الدّين‏,‏ ولا يجوز لنا حبسه‏,‏ وكذلك إذا ظفرنا بماله أو داره أو شيء يباع له في الدّين - كان رهناً أم لا - فعلنا ذلك‏,‏ ولا نحبسه‏,‏ لأنّ في حبسه استمرار ظلمه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ وأمّا الّذي له مال وعليه دين‏,‏ فيجب أداؤه إذا طُلب‏,‏ فإذا امتنع أمره الحاكم به‏,‏ فإن امتنع باع الحاكم ماله وقسمه بين الغرماء‏.‏

قال النّووي‏:‏ قال القاضي أبو الطّيّب من الشّافعيّة والأصحاب‏:‏ إذا امتنع المدين الموسر المماطل من الوفاء‏,‏ فالحاكم بالخيار‏:‏ إن شاء باع ماله عليه بغير إذنه وإن شاء أكرهه على بيعه وعزّره بالحبس وغيره حتّى يبيعه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن أبى مدين له مال يفي بدينه الحالّ الوفاء‏,‏ حبسه الحاكم‏,‏ وليس له إخراجه من الحبس حتّى يتبيّن له أمره‏,‏ أو يبرأ من غريمه بوفاء أو إبراءٍ أو حوالةٍ‏,‏ أو يرضى الغريم بإخراجه من الحبس‏,‏ لأنّ حبسه حق لربّ الدّين وقد أسقطه‏,‏ فإن أصرّ المدين على الحبس باع الحاكم ماله وقضى دينه‏.‏

مُطْلَق

التّعريف

1 - المطلق اسم مفعولٍ من الإطلاق ومن معانيه‏:‏ الإرسال والتّخلية وعدم التّقييد‏,‏ يقال‏:‏ أطلقت الأسير‏:‏ إذا حللت إساره وخلّيت عنه‏,‏ كما يقال أطلقت القول‏:‏ أرسلته من غير قيدٍ ولا شرطٍ‏,‏ وأطلقت البيّنة الشّهادة من غير تقييدٍ بتأريخ‏.‏

وفي الاصطلاح المطلق‏:‏ ما دلّ على الماهيّة من غير أن يكون له دلالة على شيءٍ من قيودها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

المقيّد‏:‏

2 - المقيّد من الأقوال ما فيه صفة أو شرط أو استثناء‏,‏ فهو نقيض للمطلق‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - إذا ورد الخطاب مطلقاً لا مقيّد له حمل على إطلاقه‏,‏ أو مقيّداً لا مطلق له أجري على تقييده‏,‏ وإن ورد في موضعٍ مقيّداً وفي آخر مطلقاً ففيه هذا التّفصيل‏:‏

إن اختلفا في السّبب والحكم فلا يحمل أحدهما على الآخر‏:‏ كتقييد الشّهادة بالعدالة وإطلاق الرّقبة في كفّارة الظّهار‏.‏

وإن اتّفقا في السّبب والحكم‏:‏ يحمل المطلق على المقيّد‏,‏ كما إذا قال الشّارع‏:‏ إن ظاهرت فأعتق رقبةً‏,‏ وقال في موضعٍ آخر‏:‏ إن ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنةً‏.‏

وإن اختلفا في السّبب دون الحكم فهذا هو موضع الخلاف بين الفقهاء‏:‏

فذهب الجمهور إلى أنّه يحمل المطلق على المقيّد وجوباً وبناءً على هذا‏:‏ اشترطوا في إجزاء الرّقبة في كفّارتي الظّهار واليمين‏:‏ الإيمان مع أنّ النّصّ ورد في الموضعين مطلقاً خلواً عن قيد الإيمان‏:‏ حملاً للمطلق في الموضعين‏:‏ على المقيّد في كفّارة القتل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏‏.‏

قال الشّافعي‏:‏ إنّ لسان العرب وعرف خطابهم يقتضي حمل المطلق على المقيّد إذا كان من جنسه‏,‏ فحمل عرف الشّرع على مقتضى لسانهم‏,‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ‏}‏‏,‏ وكما في العدالة والشهود في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ‏}‏‏,‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏‏,‏ فحمل المطلق على المقيّد في اشتراط العدالة فكذلك الكفّارة‏,‏ فيحمل مطلق العتق في كفّارتي الظّهار واليمين على العتق المقيّد بالإيمان في كفّارة القتل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يحمل المطلق على المقيّد‏,‏ لأنّ المنصوص عليه إعتاق رقبةٍ وهي اسم لذات مرقوقةٍ مملوكةٍ من كلّ وجهٍ وقد وجد‏,‏ والتّقييد بالإيمان زيادة على النّصّ‏,‏ والزّيادة على النّصّ نسخ ولا ينسخ القرآن إلا بالقرآن أو بأخبار التّواتر‏,‏ ولأنّ الإطلاق‏:‏ أمر مقصود‏,‏ لأنّه ينبئ عن التّوسعة على المكلّف‏,‏ كما أنّ التّقييد أمر مقصود ينبئ عن التّضييق‏,‏ وعند إمكان العمل بهما لا يجوز إبطال أحدهما بالآخر‏,‏ ولأنّ حمل أحدهما على الآخر حمل منصوص عليه على منصوصٍ عليه وهو باطل‏,‏ لأنّ من شرط القياس أنّ يتعدّى الحكم الشّرعي الثّابت بالنّصّ بعينه إلى فرعٍ هو نظيره ولا نصّ فيه‏,‏ هذا ولأنّ القياس حجّة ضعيفة لا يصار إليه إلا عند عدم النّصّ أو شبهته حتّى صار مؤخّراً عن قول الصّحابيّ‏,‏ وهنا نص يمكن العمل به وهو إطلاق الكتاب‏,‏ ولأنّ الفرع ليس نظير الأصل‏,‏ لأنّ قتل النّفس أعظم‏,‏ ولهذا لم يشرع فيه الإطعام ولا يجوز إلحاقه بغيره في حقّ جواز الإطعام تغليظاً للواجب عليه‏,‏ وتعظيماً للجريمة حتّى تتمّ صيانة النّفس‏,‏ فكذا لا يجوز إلحاق غيره به في التّغليظ‏,‏ لأنّ قيد الرّقبة بالإيمان أغلظ فيناسبه دون غيره‏,‏ لأنّ جريمة القتل أعظم‏,‏ ولأنّ الرّقبة في كفّارتي الظّهار واليمين مطلقة غير مقيّدةٍ بصفة أو شرطٍ‏,‏ فتتناول كلّ رقبةٍ على أيّة صفةٍ كانت‏,‏ لأنّ معنى الإطلاق التّعرض للذّات دون الصّفات فتتناول الكافرة والمؤمنة والصّغيرة والكبيرة‏,‏ والبيضاء والسّوداء‏,‏ والذّكر والأنثى‏,‏ وغير ذلك من الأوصاف المتضادّة‏.‏

وللتّفصيل يرجع إلى الملحق الأصوليّ‏.‏

شروط العمل بالخبر المطلق

4 - صرّح الشّافعيّة‏:‏ بأنّه إذا أخبر مقبول الرّواية عن نجاسة ماءٍ فإن كان فقيهاً موافقاً للمخبر في مذهبه اعتمد خبره وإن أطلق‏,‏ لأنّه خبر يغلب على الظّنّ التّنجيس‏.‏

والتّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

الجرح المطلق في العدالة

5 - اختلف الفقهاء في قبول الجرح المطلق كأن يقول‏:‏ إنّه فاسق‏:‏

فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يقبل الجرح المطلق‏,‏ لأنّ التّعديل يسمع مطلقاً فكذلك الجرح‏,‏ ولأنّ التّصريح بالسّبب قد يفضي إلى مخاطر كالقذف‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يجب ذكر السّبب للاختلاف فيه‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏تزكية ف 15، والملحق الأصولي‏)‏‏.‏

إطلاق الشّهادة بالرّضاع

6 - إذا أطلق شهود الرّضاع شهادتهم كأن قالوا‏:‏ بينهما رضاع محرّم لم يقبل‏,‏ بل يجب ذكر وقت الإرضاع وعدد الرّضعات‏,‏ كأن يقولا‏:‏ نشهد أنّ هذا ارتضع من هذه خمس رضعاتٍ متفرّقاتٍ خلص اللّبن فيهنّ إلى جوفه في الحولين أو قبل الحولين‏,‏ وذلك لاختلاف العلماء في ذلك‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏مصطلح رضاع ف 34‏)‏‏.‏

المطلق يحمل على الغالب

7 - إذا باع بثمن مطلقٍ حمل على نقد البلد‏,‏ فإن لم يوجد نقد غالب وكان هناك محملان‏:‏ أخف وأثقل‏,‏ حمل على أخفّهما عملاً بأقلّ ما يقتضيه الاسم‏.‏

واستثنى الشّافعيّة من هذه القاعدة صوراً منها‏:‏ إذا غمس المتوضّئ يده في الإناء بعد الفراغ من غسل الوجه بنيّة رفع الحدث صار الماء مستعملاً‏,‏ وإن نوى الاغتراف لم يصر مستعملاً‏,‏ وإن أطلق ولم ينو شيئاً فالصّحيح عندهم صيرورته مستعملاً‏,‏ لأنّ تقدم نيّة رفع الحدث شملته فحمل عليه‏.‏

ومنها‏:‏ أنّه يشترط في جواز قصر الصّلاة في السّفر‏:‏ نيّة القصر عند الإحرام فإن أطلق ولم ينو قصراً ولا إتماماً لزمه الإتمام‏,‏ لأنّ الأصل في الصّلاة الإتمام فينصرف عند الإطلاق إليه‏,‏ لأنّه المعهود‏.‏

ومنها‏:‏ إذا تلفّظ بما يحتمل معنيين يرجع إليه في تعيين المراد، كأن يكون عليه دينان وبأحدهما رهن فدفع مبلغاً من المال للدّائن عن أحدهما مبهماً غير معيّنٍ فله التّعيين‏.‏

ومنها‏:‏ لو قال لزوجتيه‏:‏ إحداكما طالق ولم يقصد معيّنةً طلقت إحداهما‏,‏ وعليه تعيين إحداهما للطّلاق‏.‏

ومنها‏:‏ يجوز أن يحرم مطلقاً ويصرفه بالتّعيين إلى ما شاء من النسكين أو إليهما‏.‏

شرط حمل المطلق على المقيّد

8 - اللّفظ المطلق لا يحمل على المقيّد إلا إذا كان لو صرّح بذلك المقيّد لصحّ وإلا فلا‏.‏ وخرّجوا على ذلك صوراً منها‏:‏ إذا أقرّ الأب‏:‏ بأنّ العين ملك لولده‏,‏ ثمّ ادّعى أنّه وهبها له وأراد الرجوع فله ذلك فيما ذهب إليه القاضيان‏:‏ الحسين‏,‏ و الماورديّ‏,‏ وقال النّووي في فتاويه أنّه الأصح المختار‏.‏

المطلق ينزّل على أقلّ المراتب

9 - لو نذر صوماً مطلقاً من غير تعرضٍ لعدد بلفظ ولا نيّةٍ يحمل على يومٍ‏,‏ لأنّ الصّوم اسم جنسٍ يقع على الكثير والقليل‏,‏ ولا صوم أقلّ من يومٍ‏,‏ والمتيقّن يوم‏,‏ فلا يلزمه أكثر منه‏,‏ وإن نذر أيّاماً فثلاثة لأنّها أقل مراتب الجمع‏,‏ أو نذر صدقةً‏,‏ فأقل ما يتموّل أو صلاةً فيجزئ بركعتين حملاً على واجب الشّرع‏.‏

مُطَهِّرات

انظر‏:‏ طهارة‏.‏

مَظَالِم

التّعريف

1 - المظالم لغةً‏:‏ جمع مظلمةٍ بفتح اللام وكسرها‏,‏ مصدر ظلم يظلم‏,‏ اسم لما أخذ بغير حقٍّ‏,‏ وهي ما تطلبه عند الظّالم‏,‏ وأصل الظلم وضع الشّيء في غير موضعه‏,‏ وعند فلانٍ ظلامتي ومظلمتي‏:‏ أي حقّي الّذي ظلمته‏.‏

والظلم في الاصطلاح‏:‏ التّعدّي عن الحقّ إلى الباطل‏,‏ وهو الجور‏,‏ وقيل‏:‏ هو التّصرف في ملك الغير‏,‏ ومجاوزة الحدّ‏.‏

والظلم ثلاثة أنواعٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ ظلم بين الإنسان وبين اللّه تعالى‏,‏ وأعظمه‏:‏ الكفر والشّرك والنّفاق‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏‏,‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ‏}‏‏.‏

الثّاني‏:‏ ظلم بين الإنسان وبين النّاس‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ‏}‏‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً‏}‏‏.‏

الثّالث‏:‏ ظلم بين الإنسان وبين نفسه‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ‏}‏‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏‏.‏

وكل هذه الثّلاثة في الحقيقة ظلم للنّفس‏,‏ فإنّ الإنسان في أوّل ما يَهُمّ بالظلم فقد ظلم نفسه‏,‏ فإذاً الظّالم أبداً مبتدئ في الظلم‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً‏}‏‏,‏ يتناول الأنواع الثّلاثة من الظلم فما من أحدٍ كان منه ظلم في الدنيا إلا ولو حصل له ما في الأرض ومثله معه لكان يفتدي به‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى‏}‏‏,‏ تنبيه على أنّ الظلم لا يجدي ولا يخلّص بل يردي‏.‏

فالمظالم هي الحقوق الّتي أخذت ظلماً‏,‏ وقد دعا الشّرع الحنيف إلى إقامة العدل فيها وأنشأ لها ديوان المظالم وقضاء المظالم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القضاء‏:‏

2 - القضاء في اللغة‏:‏ الحكم‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هو الإخبار عن حكمٍ شرعيٍّ على سبيل الإلزام في مجلس الحكم‏.‏

والعلاقة بين القضاء والمظالم باعتبارها ولاية خاصّة هي العموم والخصوص‏,‏ فالقضاء أعم‏.‏

ب - الدّعوى‏:‏

3 - الدّعوى في اللغة‏:‏ اسم من الادّعاء‏,‏ أي أنّها اسم لما يدعّى‏,‏ وهو الطّلب‏,‏ وتجمع على دعاوى‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ قول مقبول عند القاضي يقصد به طلب حقٍّ قبل الغير‏,‏ أو دفع الخصم عن حقّ نفسه‏.‏

والعلاقة بين المظالم والدّعوى هي أنّ الدّعوى وسيلة شرعيّة لرفع المظالم‏.‏

ج - التّحكيم‏:‏

4 - التّحكيم لغةً‏:‏ مصدر حكّمه في الأمر والشّيء أي جعله حكماً‏,‏ وفوّض الحكم إليه‏,‏ وحكّمه بينهم‏:‏ أمره أن يحكم بينهم‏,‏ فهو حَكَم ومحكّم‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ التّحكيم‏:‏ تولية الخصمين حكماً يحكم بينهما‏,‏ وفي التّنزيل العزيز‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

والعلاقة بين المظالم والتّحكيم أنّ التّحكيم وسيلة لفضّ النّزاع بين النّاس‏,‏ ورفع المظالم‏.‏

أقسام المظالم باعتبار ما تضاف إليه من الحقوق

5 - تنقسم المظالم باعتبار ما تضاف إليه من الحقوق إلى قسمين‏:‏

أ - مظالم تتعلّق بحقوق اللّه تعالى كالزّكوات والكفّارات والنذور والحدود والعبادات وارتكاب المحرّمات‏.‏

ب - مظالم تتعلّق بحقوق العباد كالغصوب‏,‏ وإنكار الودائع‏,‏ والأرزاق‏,‏ والجنايات في النّفس والأعراض‏.‏

قال الغزالي‏:‏ ومظالم العباد إمّا في النفوس أو الأموال أو الأعراض أو القلوب‏.‏

الحكم التّكليفي لرفع المظالم

6 - المظالم من الظلم‏,‏ والظلم حرام قطعاً بالنصوص المتواترة في القرآن الكريم والسنّة الشّريفة وإجماع المسلمين‏.‏

ورفع الظلم واجب شرعاً على كلّ مسلمٍ‏,‏ وهو فرض عينٍ على الخليفة أو الإمام الّذي أنيط به حفظ الدّين والدنيا‏,‏ وإقامة العدل‏,‏ ورفع الظلم والعدوان‏.‏

وفي الحديث القدسيّ‏:‏ «يا عبادي إنّي حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظّالموا» والمراد لا يظلم بعضكم بعضاً‏.‏

والخليفة إمّا أن يقوم بذلك بنفسه‏,‏ وإمّا أن ينيب عنه والياً أو أميراً أو قاضياً‏,‏ أو يجمع بين الأمرين‏,‏ وتولّي القضاء فرض كفايةٍ لمن تتوفّر فيه الشروط‏,‏ ورفع المظالم فرض عينٍ على القاضي المعيّن من الإمام‏.‏

ورغّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بردّ المظالم إلى أهلها قبل أن يحاسب الإنسان عليها‏,‏ فعن أنسٍ رضي اللّه عنه قال‏:‏ «غلا السّعر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه سعّر لنا، فقال إنّ اللّه هو المسعّر القابض الباسط الرّازق وإنّي لأرجو أن ألقى ربّي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مالٍ»‏.‏

ونظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المظالم بنفسه لما رواه عبد اللّه بن الزبير‏:‏ «أنّ رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في شراج الحرّة الّتي يسقون بها النّخل‏,‏ فقال الأنصاري‏:‏ سرّح الماء يمرّ‏,‏ فأبى عليه‏,‏ فاختصما عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للزبير‏:‏ اسق يا زبير ثمّ أرسل الماء إلى جارك‏,‏ فغضب الأنصاري فقال‏:‏ أن كان ابن عمّتك‏,‏ فتلوّن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ ثمّ قال‏:‏ اسق يا زبير ثمّ احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر‏,‏ فقال الزبير‏:‏ واللّه إنّي لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏»‏.‏

ولأنّ رفع المظالم يعتبر من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر‏,‏ وهذا واجب على الخلفاء والولاة والقضاة وسائر المسلمين‏.‏

حكمة مشروعيّة قضاء المظالم

7 - إنّ الحكمة من قضاء المظالم هي إقامة العدل‏,‏ ومنع الظلم‏,‏ لأنّ الإسلام حارب الظلم وجعله من أشدّ الرّذائل‏,‏ وأمر بالعدل وجعله من أعظم المقاصد‏.‏

وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أوّل من نظر في المظالم‏,‏ وفصل في المنازعات الّتي تقع من الولاة وذوي النفوذ والأقارب‏,‏ وسار على سنّته الشّريفة الخلفاء الرّاشدون‏.‏

وكان قضاء المظالم داخلاً - بحسب أصله - في القضاء العاديّ‏,‏ وكان يتولّى الفصل في المظالم القضاة والخلفاء والأمراء‏,‏ ثمّ صار قضاءً مستقلاً‏,‏ وله ولاية خاصّة‏.‏

قال أبو بكرٍ بن العربيّ‏:‏ وأمّا ولاية المظالم فهي ولاية غريبة‏,‏ أحدثها من تأخّر من الولاة لفساد الولاية‏,‏ وفساد النّاس‏,‏ وهي عبارة عن كلّ حكمٍ يعجز عنه القاضي‏,‏ فينظر فيه من هو أقوى منه يداً‏,‏ وذلك أنّ التّنازع إذا كان بين ضعيفين قوّى أحدهما القاضي‏,‏ وإذا كان بين قويٍّ وضعيفٍ‏,‏ أو قويّين‏,‏ والقوّة في أحدهما بالولاية‏,‏ كظلم الأمراء والعمّال‏,‏ فهذا ممّا نصب له الخلفاء أنفسهم‏.‏

وبيّن الماورديّ الحكمة من ظهور قضاء المظالم‏,‏ فقال‏:‏ ولم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة - الرّاشدين - أحد‏,‏ لأنّهم كانوا في الصّدر الأوّل‏,‏ مع ظهور الدّين عليهم‏,‏ بين من يقوده التّناصف إلى الحقّ‏,‏ أو يزجره الوعظ عن الظلم‏,‏ وإنّما كانت المنازعات تجري بينهم في أمورٍ مشتبهةٍ‏,‏ يوضّحها حكم القضاء‏,‏ فاقتصر خلفاء السّلف على فصل التّشاجر بالحكم والقضاء تعييناً للحقّ في جهته لانقيادهم إلى التزامه‏,‏ واحتاج علي رضي اللّه عنه حين تأخّرت إمامته‏,‏ واختلط النّاس فيها وتجوّروا إلى فضل صرامةٍ في السّياسة‏,‏ وزيادة تيقظٍ في الوصول إلى غوامض الأحكام‏,‏ فكان أوّل من سلك هذه الطّريقة‏,‏ واستقلّ بها‏,‏ ولم يخرج فيها إلى نظر المظالم المحض لاستغنائه عنه‏,‏ ثمّ انتشر الأمر بعده حتّى تجاهر النّاس بالظلم والتّغالب‏,‏ ولم يكفهم زواجر العظة عن التّمانع والتّجاذب‏,‏ فاحتاجوا في ردع المتغلّبين وإنصاف المغلوبين إلى نظر المظالم الّذي تمتزج به قوّة السّلطنة بنصفة القضاء‏,‏ فكان أوّل من أفرد للظلامات يوماً يتصفّح فيه قصص المتظلّمين من غير مباشرةٍ للنّظر عبد الملك بن مروان‏,‏ ثمّ زاد من جور الولاة وظلم العتاة ما لم يكفهم عنه إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر‏,‏ فكان عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه أوّل من ندب نفسه للنّظر في المظالم، وقال‏:‏ كل يومٍ أتّقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وقيته‏,‏ ثمّ جلس لها من خلفاء بني العبّاس جماعة‏,‏ فكان أوّل من جلس لها المهدي ثمّ الهادي ثمّ الرّشيد ثمّ المأمون فآخر من جلس لها المهتدي‏.‏

وهكذا صار النّظر في المظالم وردّها من واجبات الخليفة‏,‏ وهو الإمام الأعظم‏,‏ ومنه تنتقل إلى اختصاص الأمير المعيّن على إقليمٍ أو بلدٍ‏,‏ عندما يكون عامّ النّظر‏,‏ ويتعاون مع القضاة‏,‏ وهو ما قاله الماورديّ عن الوالي والأمير‏:‏ وأمّا نظره في المظالم‏,‏ فإن كان ممّا نفّذت فيه الأحكام‏,‏ وأمضاه القضاة والحكّام‏,‏ جاز له النّظر في استيفائه‏,‏ معونةً للمحقّ على المبطل‏,‏ وانتزاعاً للحقّ من المعترف المماطل‏,‏ لأنّه موكول إلى المنع من التّظالم والتّغالب‏,‏ ومندوب إلى الأخذ بالتّعاطف والتّناصف‏,‏ فإن كانت المظالم ممّا تستأنف فيها الأحكام‏,‏ ويبتدأ فيها القضاء‏,‏ منع هذا الأمير‏,‏ لأنّه من الأحكام الّتي يتضمّنها عقد إمارته وردهم إلى حاكم بلده‏,‏ فإن نفّذ حكمه لأحدهم بحقّ‏,‏ قام باستيفائه إن ضعف عنه الحاكم‏.‏ واستقرّ الأمر على انفراد المظالم بولاية مستقلّةٍ‏,‏ ويسمّى المتولّي‏:‏ صاحب المظالم‏,‏ ويختلف اسمه حسب الأزمان والأماكن‏,‏ وصار ينظر في كلّ أمرٍ عجز عنه القضاة‏,‏ كما سنبيّنه في اختصاصه‏,‏ وصار قضاء المظالم ملازماً للدّولة الإسلاميّة طوال التّاريخ‏,‏ واستقرّ على ذلك‏.‏

قاضي المظالم

أوّلاً‏:‏ تعيين قاضي المظالم

8 - إنّ المتصدّي للفصل في المظالم إمّا أن يكون الخليفة نفسه‏,‏ لأنّه في الأصل هو قاضي الأمّة‏,‏ وهو صاحب الحقّ الأساسيّ في إقامة العدل‏,‏ ومنع الظلم‏,‏ والفصل في المظالم‏,‏ وهو يتولّى ذلك بمقتضى البيعة وولايته العامّة‏,‏ فلا يحتاج إلى تعيينٍ‏.‏

وإمّا أن يكون المخوّل في نظر المظالم من له ولاية عامّة كالحكّام والولاة والأمراء والوزراء‏,‏ فهؤلاء لا يحتاجون في النّظر في المظالم إلى تقليدٍ وتعيينٍ‏,‏ وكان لهم بمقتضى ولايتهم العامّة النّظر في ذلك‏.‏

وإمّا أن يعيّن شخص خاص لقضاء المظالم ممّن ليس له ولاية عامّة‏,‏ وهذا يحتاج إلى تقليدٍ من صاحب الولاية العامّة كالخليفة والحكّام المفوّض لهم ذلك‏.‏

ثانياً‏:‏ شروط قاضي المظالم

9 - يشترط في قاضي المظالم - بالإضافة إلى شروط القاضي العامّ - أن يكون جليل القدر نافذ الأمر‏,‏ عظيم الهيبة‏,‏ ظاهر العفّة‏,‏ قليل الطّمع‏,‏ كثير الورع لأنّه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة وتثبت القضاة فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين‏.‏

قال ابن خلدونٍ عن ولاية المظالم‏:‏ هي وظيفة ممتزجة من سطوة السّلطنة ونصفة القضاء فتحتاج إلى علوّ يدٍ وعظيم رهبةٍ تقمع الظّالم من الخصمين وتزجر المعتدي وكأنّه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه‏.‏

وتفصيل شروط القاضي في مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاء ف 18‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ رزق قاضي المظالم

10 - الرّزق هو ما يرتّبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين فإن كان يخرجه كلّ شهرٍ سمّي رزقاً‏,‏ وإن كان يخرجه كلّ عامٍ سمّي عطاءً‏.‏

وناظر المظالم إن كان خليفةً أو أميراً أو والياً فرزقه حسب عمله‏,‏ ولا يختص برزق خاصٍّ لنظره في المظالم‏,‏ وإن كان ناظر المظالم قاضياً معيّناً لذلك فيعطى كفايته من بيت مال المسلمين من الجزية والخراج والعشور‏,‏ لأنّه عامل للمسلمين‏,‏ وحبس نفسه لمصلحتهم‏,‏ لذلك يجب عليهم رزقه وراتبه‏,‏ كسائر الولاة والقضاة والمفتين والمعلّمين‏,‏ وهذا رأي جماهير الفقهاء‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاء ف 58‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ اختصاصات قاضي المظالم

11 - الأصل في اختصاص المظالم المحافظة على الحقوق‏,‏ ومنع الظلامات‏,‏ ومحاسبة الولاة والجباة ومراقبة موظّفي الدّولة إذا تجاوزوا حدود سلطتهم وصلاحيّتهم أو ظلموا النّاس في أعمالهم‏.‏

والأصل أنّ اختصاص قاضي المظالم عام وشامل‏,‏ وهو ما يمارسه الخلفاء‏,‏ ومن له ولاية عامّة كالوزراء المفوّضين‏,‏ وأمراء الأقاليم‏,‏ ومن ينوب عنهم من القضاة‏,‏ وهذه الولاية العامّة تشمل عشرة أمورٍ ذكرها الماورديّ رحمه اللّه تعالى‏,‏ وتبعه العلماء والفقهاء‏,‏ وهي‏:‏

1 - النّظر في تعدّي الولاة على الرّعيّة وأخذهم بالعسف في السّيرة‏,‏ فهذا من لوازم النّظر في المظالم الّذي لا يقف على ظلامة متظلّمٍ فيكون لسيرة الولاة متصفّحاً ومكتشفاً أحوالهم ليقوّيهم إن أنصفوا‏,‏ ويكفّهم إن عسّفوا‏,‏ ويستبدل بهم إن لم ينصفوا‏,‏ ولم يؤدوا واجبهم المنوط بهم‏.‏

2 - جور العمّال في جباية الأموال بمقارنتها بالقوانين العادلة في دواوين الأئمّة‏,‏ فيحمل النّاس عليها‏,‏ ويأخذ العمّال بها‏,‏ وينظر فيما استزادوه‏,‏ فإن رفعوه إلى بيت المال‏,‏ أمر بردّه‏,‏ وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه‏.‏

3 - النّظر في كتّاب الدّواوين لأنّهم أمناء المسلمين على بيوت أموالهم فيما يستوفونه له‏,‏ ويوفونه منه‏,‏ فيتصفّح أحوالهم فيما وكل إليهم من زيادةٍ أو نقصانٍ‏.‏

وهذه الأقسام الثّلاثة لا يحتاج والي المظالم في تصفحها إلى متظلّمٍ‏,‏ ويبادر إليها بنفسه بدون دعوى‏.‏

4 - تظلم المسترزقة‏,‏ وهم الموظّفون من نقص أرزاقهم‏,‏ أو تأخرها عنهم‏,‏ وإجحاف النظّار بهم فيرجع إلى ديوانه في فرض العطاء العادل فيجريهم عليه‏,‏ وينظر فيما نقصوه‏,‏ أو منعوه من قبل‏,‏ فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه منهم‏,‏ وإن لم يأخذوه قضاه من بيت المال‏.‏

5 - رد الغصوب‏,‏ وهي قسمان‏:‏

أحدهما‏:‏ غصوب سلطانيّة قد تغلّب عليها ولاة الجور‏,‏ كالأموال المقبوضة عن أربابها‏,‏ إمّا لرغبة فيها‏,‏ وإمّا لتعدٍّ على أهلها‏,‏ فهذا إن علم به والي المظالم عند تصفح الأمور أمر بردّه قبل التّظلم إليه‏,‏ وإن لم يعلم به فهو موقوف على تظلم أربابه‏,‏ ويجوز أن يرجع فيه عند تظلمهم إلى ديوان السّلطنة‏,‏ فإذا وجد فيه ذكر قبضها على مالكها عمل عليه‏,‏ وأمر بردّها عليه‏,‏ ولم يحتج إلى بيّنةٍ تشهد به‏,‏ وكان ما وجده في الدّيوان كافياً‏.‏

ثانيهما‏:‏ ما تغلّب عليه ذوو الأيدي القويّة‏,‏ وتصرّفوا فيه تصرف الملاك بالقهر والغلبة‏,‏ فهذا موقوف على تظلم أربابه‏,‏ ولا ينتزع من يد غاصبه إلا بأحد أمورٍ أربعةٍ‏,‏ إمّا باعتراف الغاصب وإقراره‏,‏ وإمّا بعلم والي المظالم‏,‏ فيجوز له أن يحكم عليه بعلمه‏,‏ وإمّا ببيّنة تشهد على الغاصب بغصبه‏,‏ أو تشهد للمغصوب منه بملكه‏,‏ وإمّا بتظاهر الأخبار الّتي ينفى عنها التّواطؤ‏,‏ ولا يختلج فيها الشكوك‏,‏ لأنّه لمّا جاز للشهود أن يشهدوا في الأملاك بتظاهر الأخبار كان حكم ولاة المظالم بذلك أحقّ‏.‏

6 - مشارفة الوقوف وهي ضربان‏:‏ عامّة وخاصّة‏.‏

فأمّا العامّة فيبدأ بتصفحها‏,‏ وإن لم يكن فيها متظلّم ليجريها على سبيلها‏,‏ ويمضيها على شروط واقفها إذا عرفها إمّا من دواوين الحكّام المندوبين لحراسة الأحكام‏,‏ وإمّا من دواوين السّلطنة على ما جرى فيها من معاملةٍ‏,‏ أو ثبت لها من ذكرٍ وتسميةٍ‏,‏ وإمّا من كتبٍ فيها قديمةٍ تقع في النّفس صحّتها‏,‏ وإن لم يشهد الشهود بها‏,‏ لأنّه لا يتعيّن الخصم فيها‏,‏ فكان الحكم أوسع منه في الوقوف الخاصّة‏.‏

وأمّا الوقوف الخاصّة فإنّ نظره فيها موقوف على تظلم أهلها عند التّنازع فيها‏,‏ لوقفها على خصومٍ متعيّنين‏,‏ فيعمل عند التّشاجر فيها على ما تثبت به الحقوق عند الحاكم‏,‏ ولا يجوز أن يرجع إلى ديوان السّلطنة‏,‏ ولا إلى ما يثبت من ذكرها من الكتب القديمة إذا لم يشهد بها شهود معدّلون‏.‏

7 - تنفيذ ما وقف من أحكام القضاة لضعفهم عن إنفاذها‏,‏ وعجزهم عن المحكوم عليه‏,‏ لتعذره وقوّة يده‏,‏ أو لعلوّ قدره‏,‏ وعظم خطره‏,‏ فيكون ناظر المظالم أقوى يداً‏,‏ وأنفذ أمراً‏,‏ فينفذ الحكم على من توجّه إليه بانتزاع ما في يده‏,‏ أو بإلزامه الخروج عمّا في ذمّته‏.‏

8 - النّظر فيما عجز عنه النّاظرون في الحسبة في المصالح العامّة كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه‏,‏ والتّعدّي في طريقٍ عجز عن منعه‏,‏ والتّحيف في حقٍّ لم يقدر على ردّه‏,‏ فيأخذهم والي المظالم بحقّ اللّه تعالى في الجميع‏,‏ ويأمر بحملهم على موجبه‏.‏

9 - مراعاة العبادات الظّاهرة كالجمع والأعياد‏,‏ والحجّ‏,‏ والجهاد‏,‏ والزّكاة‏,‏ عند التّقصير فيها‏,‏ وإخلال شروطها‏,‏ فإنّ حقوق اللّه تعالى أولى أن تستوفى وفروضه أحق أن تؤدّى‏,‏ وهذا من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر‏,‏ والتّناصح‏,‏ والدّعوة والتّذكير‏.‏

10 - النّظر بين المتشاجرين والحكم بين المتنازعين‏,‏ فلا يخرج في النّظر بينهم عن موجب الحقّ ومقتضاه‏,‏ ولا يسوغ أن يحكم بينهم إلا بما يحكم به الحكّام والقضاة‏,‏ وربّما اشتبه حكم المظالم على النّاظرين فيها‏,‏ فيجورون في أحكامها‏,‏ ويخرجون إلى الحدّ الّذي لا يسوغ‏,‏ وهذا من عمل القضاة‏.‏

الفرق بين اختصاص المظالم واختصاص القضاء

12 - الفرق بين قضاء المظالم والقضاء العاديّ يظهر في الجوانب التّالية‏:‏

1 - إنّ لنظّار المظالم من فضل الهيبة‏,‏ وقوّة اليد ما ليس للقضاة في كفّ الخصوم عن التّجاحد‏,‏ والمبالغة في إنكار الحقّ في كلا الجانبين‏,‏ ومنع الظّلمة من التّغالب‏,‏ والتّجاذب‏.‏ 2 - إنّ نظر المظالم يخرج عن ضيق الوجوب في التّحقيق والإثبات والأحكام والتّنفيذ إلى سعة الجواز‏,‏ فيكون أفسح مجالاً‏,‏ وأوسع مقالاً‏.‏

3 - يستعمل ناظر المظالم من فضل الإرهاب‏,‏ وكشف الأسباب بالأمارات الدّالّة‏,‏ وشواهد الأحوال اللائحة‏,‏ ما يضيّق على الحكّام‏,‏ فيصل به إلى ظهور الحقّ‏,‏ ومعرفة المبطل من المحقّ‏.‏

4 - يقابل ناظر المظالم من ظهر ظلمه بالتّأديب‏,‏ ويأخذ من بان عدوانه بالتّقويم والتّهذيب‏.‏

5 - لناظر المظالم استمهال الخصوم‏,‏ وتأجيل الفصل في النّزاع‏,‏ والتّأنّي في ترداد الأطراف عند اشتباه الأمور‏,‏ واستبهام الحقوق‏,‏ ليُمْعِن في الكشف عن الأسباب وأحوال الخصوم ما ليس للقضاة إذا سألهم أحد الخصمين فصل الحكم‏,‏ فلا يسوغ أن يؤخّره الحاكم‏,‏ ويسوغ أن يؤخّره والي المظالم‏.‏

6 - لناظر المظالم رد الخصوم إذا أعضلوا‏,‏ أي تعذّر التّوفيق بينهم‏,‏ إلى وساطة الأمناء‏,‏ ليفصلوا في التّنازع بينهم صلحاً عن تراضٍ‏,‏ وليس للقاضي ذلك إلا عن رضا الخصمين بالرّدّ إلى الصلح‏.‏

7 - لناظر المظالم أن يفسح في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات التّجاحد‏,‏ ويأذن في إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التّكفل‏,‏ لينقاد الخصوم إلى التّناصف‏,‏ ويعدلوا عن التّجاحد والتّكاذب‏.‏

8 - لناظر المظالم أن يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاء في شهادة المعدّلين فقط‏.‏

9 - يجوز لناظر المظالم إحلاف الشهود عند ارتيابه بهم إذا بذلوا أيمانهم طوعاً‏,‏ ويستكثر من عددهم ليزول عنه الشّك‏,‏ وينفي عنه الارتياب‏,‏ وليس ذلك للحاكم العاديّ‏.‏

10 - يجوز لناظر المظالم أن يبتدئ باستدعاء الشهود‏,‏ ويسأل عمّا عندهم في تنازع الخصوم‏,‏ أمّا عادة القضاة فهي تكليف المدّعي إحضار بيّنته‏,‏ ولا يسمعونها إلا بعد مسألته وطلبه‏.‏

الفرق بين اختصاص المظالم والحسبة

13 - تتّفق المظالم مع الحسبة في أمورٍ وتختلف في أمورٍ أخرى‏.‏

أمّا وجه الشّبه بين المظالم والحسبة‏,‏ فهي أمران وهما‏:‏

1 - أنّ موضوع المظالم والحسبة يعتمد على الرّهبة وقوّة الصّرامة المختصّة بالسّلطنة‏.‏ 2 - يجوز للقائم في المظالم والحسبة أن ينظر من تلقاء نفسه‏,‏ وفي حدود اختصاصه لأسباب المصالح‏,‏ وإنكار العدوان‏,‏ والإلزام في أحكام الشّرع‏,‏ بدون حاجةٍ إلى مدّعٍ في ذلك‏.‏

أمّا أوجه الاختلاف بين المظالم والحسبة فهي‏:‏

1 - أنّ النّظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة‏,‏ أمّا النّظر في الحسبة فموضوع لما ترفّع عنه القضاة‏,‏ أو لا حاجة لعرضه على القضاء‏,‏ فكانت رتبة المظالم أعلى ورتبة الحسبة أخفض منه‏,‏ ويترتّب على ذلك أنّه يجوز لوالي المظالم أن يوقّع - يخاطب ويراسل - إلى القضاة والمحتسب‏,‏ ولم يجز للقاضي أن يوقّع إلى والي المظالم‏,‏ ويجوز له أن يوقّع إلى المحتسب‏,‏ ولا يجوز للمحتسب أن يوقّع إلى واحدٍ منهما‏.‏

2 - يجوز لوالي المظالم أن ينظر في دعاوى المتخاصمين‏,‏ ويفصل بينهما‏,‏ ويصدر حكماً‏,‏ قضائياً قابلاً للتّنفيذ‏,‏ أمّا والي الحسبة فلا يجوز له أن يصدر حكماً لأنّه مختص في الأمور الظّاهرة الّتي لا اختلاف فيها ولا تنازع‏,‏ ولا تحتاج إلى بيّنةٍ وإثباتٍ وحجاجٍ‏.‏

طرق النّظر في المظالم ومكانه وأوقاته

أوّلاً‏:‏ مجلس النّظر في المظالم

14 - يستعين قاضي المظالم بالأعوان الّذين يساعدونه في أداء مهمّته الجسيمة‏,‏ ويستكمل بهم مجلس نظره‏,‏ ولا يستغني عنهم‏,‏ ولا ينتظم نظره إلا بهم‏,‏ ولذلك فإنّ مجلس النّظر في المظالم يتم تشكيله كما يلي‏:‏

1 - رئيس المجلس‏,‏ وهو والي المظالم‏,‏ أو قاضي المظالم‏.‏

2 - الحماة والأعوان لجذب القويّ‏,‏ وتقويم الجريء‏.‏

3 - القضاة والحكّام‏,‏ لاستعلام ما ثبت عندهم من الحقوق‏,‏ ومعرفة ما يجري في مجالسهم بين الخصوم‏.‏

4 - الفقهاء‏,‏ ليرجع إليهم فيما أشكل‏,‏ ويسألهم عمّا اشتبه وأعضل‏.‏

5 - الكتّاب‏,‏ ليثبتوا ما جرى بين الخصوم‏,‏ وما توجّه لهم أو عليهم من الحقوق‏,‏ ويشترط في الكاتب أن يكون عالماً بالشروط والأحكام‏,‏ والحلال والحرام‏,‏ مع جودة الخطّ‏,‏ وحسن الضّبط‏,‏ والبعد عن الطّمع‏,‏ والأمانة والعدالة‏.‏

6 - الشهود‏,‏ ليشهدوا على ما أوجبه قاضي المظالم من حقٍّ‏,‏ وأمضاه من حكمٍ وهم شهود للقاضي نفسه حتّى يتمّ التّنفيذ‏,‏ ويستبعد الإنكار والجحود‏.‏

فإن استكمل مجلس المظالم هؤلاء السّتّة شرع حينئذٍ في نظر المظالم‏.‏

ثانياً‏:‏ التّدابير المؤقّتة في النّظر بالمظالم

15 - يحق لقاضي المظالم القيام بتدابير مؤقّتةٍ‏,‏ وإجراءاتٍ خاصّةٍ‏,‏ قبل النّظر في دعوى المظالم‏,‏ وأثناء النّظر فيها‏,‏ أهمها‏:‏

1 - الكفالة‏:‏ وذلك بتكليف المدّعى عليه - المدين - بتقديم كفالةٍ بأصل الدّين‏,‏ ريثما يفصل في الأمر‏,‏ قال الماورديّ‏:‏ وعلى والي المظالم أن ينظر في الدّعوى‏,‏ فإن كانت مالاً‏,‏ في الذّمّة كلّفه القاضي إقامة كفيلٍ‏.‏

2 - الحجر‏:‏ قال الماورديّ‏:‏ وإن كانت الدّعوى عيناً قائمةً كالعقار حجر عليه فيها حجراً لا يرتفع به حكم يده‏,‏ ويرد استغلالها إلى أمينٍ يحفظه على مستحقّه منهما‏,‏ وبما أنّ الحجر من جهةٍ‏,‏ ووضع المال عند أمينٍ من جهةٍ أخرى‏,‏ قد ينتج عنهما ضرر وأذىً لصاحب الحقّ‏,‏ ولذلك تشدّد فيهما الفقهاء‏,‏ فقالوا‏:‏ فأمّا الحجر عليه فيها‏,‏ وحفظ استغلالها مدّة الكشف والوساطة فمعتبر بشواهد أحوالهما‏,‏ واجتهاد والي المظالم فيما يراه بينهما إلى أن يثبت الحكم بينهما‏.‏

3 - إجراء المعاينة والتّحقيق المحلّيّ‏,‏ فإنّ لوالي المظالم أن يكشف عن الحال من جيران الملك‏,‏ ومن جيران المتنازعين فيه‏,‏ ليتوصّل بهم إلى وضوح الحقّ‏,‏ ومعرفة المحقّ‏.‏

4 - الاستكتاب والتّطبيق والمضاهاة‏,‏ وذلك إذا أنكر المدّعى عليه الخطّ‏,‏ فإنّ والي المظالم يختبر خطّه‏,‏ باستكتابه بخطوطه الّتي يكتبها‏,‏ ويكلّفه الإكثار من الكتابة ليمنعه من التّصنع فيها‏,‏ ثمّ يجمع بين الخطّين‏,‏ فإذا تشابها حكم به عليه‏,‏ وهذا قول من جعل اعترافه الخطّ موجباً للحكم به‏,‏ والّذي عليه المحقّقون منهم أنّهم لا يفعلون ذلك للحكم عليه‏,‏ ولكن لإرهابه وتكون الشبهة مع إنكاره للخطّ أضعف منها مع اعترافه به‏,‏ وترفع الشبهة إن كان الخط منافياً لخطّه‏,‏ ويعود الإرهاب على المدّعي ثمّ يردّان إلى الوساطة فإن أفضى الحال إلى الصلح وإلا بتّ القاضي الحكم بينهما بالأيمان‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّسوية بين الخصمين

16 - يقتضي نظام القضاء عامّةً‏,‏ وقضاء المظالم خاصّةً‏,‏ التّسوية بين الخصمين أمام القاضي‏,‏ في الجلوس والإقبال‏,‏ والإشارة والنّظر‏,‏ دون التّفريق بين كبيرٍ وصغيرٍ‏,‏ وراعٍ ورعيّةٍ‏,‏ وشريفٍ وغيره‏,‏ فالكل أمام العدل سواء‏,‏ لما روته أم سلمة رضي اللّه عنها أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ «من ابتلي بالقضاء بين النّاس فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده»‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏تسوية ف 9‏,‏ وقضاء ف 41‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ وقت النّظر في المظالم

17 - على الولاة الّذين يمارسون قضاء المظالم بجانب أعمالهم أن يخصّصوا يوماً معلوماً في الأسبوع للنّظر في المظالم‏,‏ ليقصده المتظلّمون‏,‏ ويتفرّغ الولاة في سائر الأيّام لأعمالهم الأخرى‏,‏ وكانت المظالم في العهود الأولى قليلةً ومحدودةً‏,‏ وكان بعض الخلفاء ينظر في المظالم في جميع الأوقات متى حضرت مظلمة‏,‏ فكان المهدي مثلاً يجلس في كلّ وقتٍ لردّ المظالم‏.‏

أمّا إن كان قاضي المظالم متعيّناً لذلك‏,‏ ومتفرّغاً له‏,‏ فيكون نظره فيها في جميع الأيّام‏,‏ وفي جميع الأوقات‏.‏

خامساً‏:‏ مكان المظالم

18 - كان النّظر في المظالم في مكان الخليفة في دار الخلافة‏,‏ أو مكان الوالي‏,‏ أو في المسجد‏,‏ ولمّا أفردت المظالم بديوان خاصٍّ‏,‏ وكيانٍ مستقلٍّ خصّصت لها دار معيّنة يقصدها المتظلّمون‏,‏ وتعقد فيها جلسات النّظر في المظالم‏,‏ ويجتمع فيها أصحاب العلاقة في الأمر‏.‏ وذكر الطّبريّ أنّه في أيّام العبّاسيّين خصّصت دار للمظالم في بغداد‏,‏ ثمّ بنى السلطان الصّالح العادل نور الدّين محمود بن زنكيٍّ الشّهيد دار العدل بدمشق لكشف الظلامات بسبب ما جرى فيها من ظلم بعض أمرائه للنّاس‏,‏ فكان ينصف من وزرائه وأمرائه الرّعيّة‏,‏ وكذلك أنشأ الظّاهر بيبرس بمصر دار العدل‏,‏ وحكم بين النّاس‏,‏ وأنصف المظلوم‏,‏ وخلّص الحقوق‏.‏

ولزيادة التّفصيل يرجع إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاء ف 37 وما بعدها‏)‏‏.‏

سادساً‏:‏ الدّعوى في المظالم

19 - الأصل في ردّ المظالم أنّها واجبة على الإمام والخليفة‏,‏ والوالي والأمير‏,‏ والمحتسب وقاضي المظالم‏,‏ ويجوز لصاحب الحقّ أخذه بلا دعوى إن قدر عليه‏.‏

قال القرافي‏:‏ كل أمرٍ مجمعٍ على ثبوته‏,‏ وتعيّن الحق فيه‏,‏ ولا يؤدّي أخذه إلى فتنةٍ وتشاجرٍ‏,‏ ولا فساد عرضٍ أو عضوٍ يجوز أخذه من غير رفعٍ للحاكم‏.‏

سابعاً‏:‏ القضاء بالسّياسة الشّرعيّة في المظالم

20 - إنّ التّحقيق والإثبات في قضاء المظالم أوسع من القضاء العاديّ‏,‏ ويستطيع والي المظالم أو قاضي المظالم أن يعتمد على السّياسة الشّرعيّة العامّة في قضائه‏,‏ لذلك قال الماورديّ‏:‏ فأمّا نظر المظالم الموضوع على الأصلح فعلى الجائز‏,‏ دون الواجب‏,‏ فيسوغ فيه مثل هذا عند ظهور الرّيبة وقصد العناد‏,‏ ويبالغ في الكشف بالأسباب المؤدّية إلى ظهور الحقّ‏,‏ ويصون المدّعى عليه بما اتّسع في الحكم‏.‏

وقال الماورديّ‏:‏ وربّما تلطّف والي المظالم في إيصال المتظلّم إلى حقّه‏,‏ بما يحفظ معه حشمة المتظلّم منه‏,‏ أو مواضعة المطلوب على ما يحفظ به حشمة نفسه‏.‏

فإذا كان الظلم واضحاً اكتفى قاضي المظالم بالبيّنة اليسيرة المؤدّية إلى القناعة الوجدانيّة‏,‏ ولذلك قال ابن عبد الحكم‏:‏ كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البيّنة القاطعة‏,‏ وكان يكتفي باليسير إذا عرف وجه مظلمة الرّجل ردّها عليه‏,‏ ولم يكلّفه تحقيق البيّنة‏,‏ كما يعرف من غشم - ظلم - الولاة قبله على النّاس‏,‏ ولقد أنفذ بيت مال العراق في ردّ المظالم حتّى حمل إليها من الشّام‏.‏

وفي ذلك إطلاق ليد صاحب المظالم وتوسعة عليه‏,‏ لمواجهة حالات الضّرورات والنّوازل والحوادث‏,‏ وهو ما قصده الخليفة الرّاشد عمر بن عبد العزيز بقوله‏:‏ تحدث للنّاس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور‏.‏

وهو ما يقوم به القاضي بالاجتهاد والتّحرّي‏.‏

فالقضاء بالسّياسة الشّرعيّة العادلة الّتي تخرج الحقّ من الظّالم‏,‏ وترفع كثيراً من المظالم‏,‏ وتردع أهل الفساد‏,‏ هي جزء من الشّريعة‏,‏ وباب من أبوابها‏,‏ وليست مخالفةً لها‏.‏

ثامناً‏:‏ التّنفيذ

21 - وهو تنفيذ الأحكام وهو الهدف الأخير من وجود القضاء والمحاكم‏,‏ ولا سيّما في قضاء المظالم‏,‏ إذا عجز القضاة عن تنفيذ أحكامها على المحكوم عليه‏,‏ لتعززه وقوّة يده‏,‏ أو لعلوّ قدره‏,‏ وعظم خطره‏,‏ فيكون ناظر المظالم أقوى يداً‏,‏ وأنفذ أمراً‏,‏ فينفّذ الحكم على من يوجّه إليه‏,‏ بانتزاع ما في يده‏,‏ أو بإلزامه الخروج ممّا في ذمّته‏.‏

توقيعات قاضي المظالم

22 - التّوقيع‏:‏ هو الكتاب الّذي يتضمّن الادّعاء من شخصٍ‏,‏ والجواب من آخر‏,‏ والبيّنة على ذلك‏,‏ والمقصود بالتّوقيعات هنا‏:‏ هي الكتب الّتي تصدر عن والي المظالم‏,‏ ويرسلها إلى غيره بإحالة موضوع المنازعة إلى شخصٍ أو لجنةٍ‏,‏ ليطلعهم على ما جرى عنده من تظلمٍ وأحكامٍ وقصص المتظلّمين إليه‏,‏ بقصد تحضير الدّعوى‏,‏ أو التّحقيق فيها‏,‏ أو النّظر بينهم‏,‏ والفصل فيها‏.‏

23 - وقسّم الماورديّ‏,‏ توقيعات قاضي المظالم إلى قسمين حسب حال الموقّع إليه‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ أن يكون الموقّع إليه مختصاً أصلاً بالنّظر في المظالم‏,‏ كالتّوقيع إلى القاضي المكلّف بالنّظر في المظالم‏,‏ وهذا ينقسم إلى نوعين‏:‏

أ - أن يكون التّوقيع إذناً للقاضي للفصل في الدّعوى والحكم فيها‏,‏ وهنا يجوز له الحكم بأصل الولاية‏,‏ ويكون التّوقيع تأكيداً لا يؤثّر فيه قصور معانيه‏.‏

ب - أن يقتصر التّوقيع على مجرّد الكشف والتّحقيق والوساطة بين الخصمين لإنهاء النّزاع‏,‏ وقد يقترن ذلك بالنّهي عن الحكم فيه‏,‏ فلا يجوز للقاضي أن يحكم في القضيّة وإن لم ينهه الكاتب في التّوقيع عن الحكم بينهما فيكون نظر القاضي على عمومه في جواز الحكم بينهما‏,‏ وفي قولٍ ضعيفٍ يكون ذلك منعاً من الحكم‏,‏ وفي قولٍ ثالثٍ‏:‏ يكون ممنوعاً من الحكم ومقصوراً على ما تضمّنه التّوقيع من الكشف والوساطة‏,‏ لأنّ فحوى التّوقيع دليل عليه‏.‏

وإذا كان التّوقيع بمجرّد الوساطة فلا يلزم القاضي المحال إليه بإنهاء الحال‏,‏ وإخطاره إلى قاضي المظالم بعد الوساطة‏,‏ وإن كان التّوقيع بكشف الصورة‏,‏ أو بالتّحقيق وإبداء الرّأي لزمه إنهاء حالهما إليه‏,‏ لأنّه استخبار منه فلزم إجابته‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ أن يكون الموقّع إليه لا ولاية له في نظر المظالم‏,‏ كتوقيعه إلى فقيهٍ أو شاهدٍ‏,‏ وهذا القسم له ثلاث صورٍ‏:‏

أ - أن يكون التّوقيع للتّحقيق وكشف الصورة وإبداء الرّأي‏,‏ فعلى الموقّع إليه أن يكشفها‏,‏ وينهي منها لقاضي المظالم ما يصح أن يشهد به‏,‏ ويجوز لوالي المظالم الموقّع أن يحكم به‏,‏ وإلا كان مجرّد خبرٍ لا يجوز للموقّع أن يحكم به‏,‏ ولكن يجعله في نظر المظالم من الأمارات الّتي يغلب بها حال أحد الخصمين في الإرهاب‏,‏ وفضل الكشف‏.‏

ب - أن يكون التّوقيع بالوساطة‏,‏ فيتوسّط الموقع إليه بينهما‏,‏ فإن أفضت الوساطة إلى صلح الخصمين لم يلزمه إنهاؤها إلى والي المظالم‏,‏ ويعتبر شاهداً فيها‏,‏ إذا استدعي للشّهادة بشأنها مستقبلاً‏,‏ وإن لم تفض الوساطة إلى الصلح بين الطّرفين كان الوسيط شاهداً فيما اعترفا به عنده يؤدّيه إلى النّاظر في المظالم إن عاد الخصمان إلى التّظلم وطلب الشّهادة‏,‏ ولا يلزمه أداؤها إن لم يعودا‏.‏

ج - أن يكون التّوقيع للشّخص بالحكم بين الخصمين‏,‏ فهذا يعني إسناد ولايةٍ له‏,‏ ويتعيّن مراعاة فحوى قرار الإحالة لأعمال القضاء‏,‏ ليكون نظره محمولاً على موجبه‏.‏

24 - كما قسّم الماورديّ توقيعات قاضي المظالم حسب مضمون الكتاب إلى قسمين‏,‏ وهما‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ أن تكون عبارة الإحالة متضمّنةً إجابة الخصم إلى ملتمسه‏,‏ فيعتبر فيه حينئذٍ ما سأل الخصم في ظلامته‏,‏ ويصير النّظر مقصوراً عليه‏,‏ فإن سأل الوساطة أو الكشف للصورة‏,‏ أي التّحقيق فيها‏,‏ كانت الإحالة موجبةً له‏,‏ وكان النّظر مقصوراً عليه‏,‏ سواء خرج التّوقيع مخرج الأمر‏,‏ كقوله‏:‏ أجبه إلى ملتمسه‏,‏ أو خرج مخرج الحكاية‏,‏ كقوله‏:‏ رأيك في إجابة ملتمسه‏,‏ كان موقعاً‏,‏ لأنّه لا يقتضي ولايةً يلزم حكمها‏,‏ فكان أمرها أخفّ‏,‏ وإن سأل المتظلّم الحكم بينه وبين خصمه فلا بدّ أن يكون الخصم مسمّىً‏,‏ والخصومة مذكورة‏,‏ لتصحّ ولاية الفصل في النّزاع عليهما‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ أن تكون الإحالة أو التّفويض متضمّناً إجابة الخصم إلى ما سأل‏,‏ على أن يستأنف فيه الأمر‏,‏ وتتحدّد الولاية بمضمون قرار الإحالة‏,‏ ولها ثلاث صورٍ‏:‏

أ - أن تكون الإحالة كاملةً في صحّة الولاية‏,‏ وهذا يتضمّن الأمر بالنّظر‏,‏ والأمر بالحكم‏,‏ ويكون الحكم بالحقّ الّذي يوجبه الشّرع‏,‏ وهذا هو التّوقيع الكامل‏.‏

ب - أن لا يكون قرار الإحالة كاملاً‏,‏ بل تضمّن الأمر بالحكم دون النّظر‏,‏ فيذكر في توقيعه مثلاً‏:‏ أحكم بين رافع هذه القصّة وبين خصمه‏,‏ أو يقول‏:‏ اقض بينهما‏,‏ فتصح الولاية بذلك‏,‏ لأنّ الحكم والقضاء بينهما لا يكون إلا بعد تقدم النّظر‏,‏ فصار الأمر به متضمّناً للنّظر‏,‏ لأنّه لا يخلو منه‏.‏

ج - أن يخلو التّوقيع من الكمال والجواز‏,‏ بأن يذكر في التّوقيع‏:‏ انظر بينهما‏,‏ فلا تنعقد بهذا التّوقيع ولاية‏,‏ لأنّ النّظر بينهما يحتمل الوساطة الجائزة‏,‏ ويحتمل الحكم اللازم‏,‏ وهما في الاحتمال سواء‏,‏ فلم تنعقد الولاية به مع الاحتمال‏.‏

أمّا إن قال له‏:‏ انظر بينهما بالحقّ‏,‏ ففيه اختلاف‏,‏ فقيل‏:‏ إنّ الولاية منعقدة‏,‏ لأنّ الحقّ ما لزم‏,‏ وقيل‏:‏ لا تنعقد به‏,‏ لأنّ الصلح والوساطة حق‏,‏ وإن لم يلزمه‏.‏

كيفيّة ردّ المظالم‏:‏

25 - رغّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بردّ المظالم إلى أهلها قبل أن يحاسب عليها‏,‏ وطلب ممّن ارتكب مظلمةً أن يتحلّلها من صاحبها بأسرع ما يمكن‏,‏ فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه»‏.‏

وحدّد النّووي كيفيّة ردّ المظالم إلى أصحابها فقال‏:‏ إن كانت المعصية قد تعلّق بها حق مالي‏,‏ كمنع الزّكاة‏,‏ والغصب‏,‏ والجنايات في أموال النّاس‏,‏ وجب مع ذلك تبرئة الذّمّة عنه بأن يؤدّي الزّكاة‏,‏ ويردّ أموال النّاس إن بقيت‏,‏ ويغرم بدلها إن لم تبق‏,‏ أو يستحل المستحقّ فيبرئه‏,‏ ويجب أن يعلم المستحقّ بالحقّ إن لم يعلم بالحقّ‏,‏ وأن يوصّله إليه إن كان غائباً إن كان غصبه هناك‏,‏ فإن مات سلّمه إلى وارثه‏,‏ فإن لم يكن له وارث‏,‏ وانقطع خبره رفعه إلى قاضٍ ترضى سيرته وديانته‏,‏ فإن تعذّر تصدّق به على الفقراء بنيّة الضّمان له إن وجده‏,‏ وإن كان معسراً نوى الضّمان إذا قدر‏,‏ فإن مات قبل القدرة فالمرجو من فضل اللّه تعالى المغفرة‏,‏ وإن كان حقاً للعباد وليس بماليّ كالقصاص وحدّ القذف فيأتي المستحقّ ويمكّنه من الاستيفاء فإن شاء اقتصّ وإن شاء عفا‏.‏

وذكر مثله الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة مع تفصيلٍ في الفروع‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ أمّا الجناية على القلوب بمشافهة النّاس بما يسوءهم أو يصيبهم في الغيب فليطلب من كلّ من تعرّض له بلسانه أو آذى قلبه بفعل من أفعاله‏,‏ وليحل واحداً واحداً منهم، ومن مات أو غاب فلا يتدارك إلا بكثير الحسنات‏,‏ ثمّ تبقى له مظلمة‏,‏ فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميّت والغائب‏.‏

توقف قبول التّوبة على ردّ المظالم

26 - يشترط في التّوبة رد المظالم إلى أهلها‏,‏ أو تحصيل البراءة منها‏,‏ لأنّ التّوبة بمعنى النّدم على ما مضى‏,‏ والعزم على عدم العود لمثله لا يكفي في التّوبة وإسقاط الحقوق‏,‏ سواء كانت من حقوق اللّه تعالى كالزّكوات والكفّارات والنذور‏,‏ أو من حقوق العباد كردّ المال المغصوب والجنايات في الأموال والأنفس‏,‏ وردّ المال المسروق وغيره‏.‏

قال ابن قدامة عن التّوبة‏:‏ وإن كانت توجب عليه حقاً للّه تعالى‏,‏ أو لآدميّ‏,‏ كمنع الزّكاة والغصب‏,‏ فالتّوبة منه بما ذكرنا‏,‏ وترك المظلمة حسب إمكانه‏,‏ بأن يؤدّي الزّكاة‏,‏ ويردّ المغصوب‏,‏ أو مثله إن كان مثلياً‏,‏ وإلا قيمته‏,‏ وإن عجز عن ذلك نوى ردّه متى قدر عليه‏,‏ فإن كان عليه حق في البدن‏,‏ فإن كان حقاً لآدميّ كالقصاص‏,‏ وحدّ القذف‏,‏ اشترط في التّوبة التّمكين في نفسه‏,‏ وبذلها للمستحقّ‏.‏

ونصّ الفقهاء على توقف قبول التّوبة على ردّ المظالم في أبوابٍ مختلفةٍ‏,‏ فيعتبر في صحّة توبةٍ من نحو غصب ردّ مظلمةٍ إلى ربّها إن كان حياً‏,‏ أو إلى ورثته إن كان ميّتاً‏,‏ أو أن يجعله منها في حلٍّ بأن يطلب منه أن يبرئه‏,‏ ويستمهل التّائب ربّ المظلمة إن كان معسراً وعجز عن ردّها‏,‏ أو بدلها لعسرته‏.‏

وإنّ توبة القاذف أن يكذّب نفسه‏,‏ لأنّ عرض المقذوف قد تلوّث بقذفه‏,‏ فإكذابه نفسه يزيل ذلك التّلوث فتكون التّوبة به‏.‏

وإنّ الوديعة الّتي جهل المودع لها‏,‏ وأيس المودع من معرفة مالكها‏,‏ يجوز إعطاؤها لبيت المال إذا لم يكن الحاكم جائراً ظالماً‏,‏ ويجوز لمن هي في يده أن يصرفها في مصارفها أو في بناء مسجدٍ أو رباطٍ‏,‏ إذا كان الإمام جائراً‏.‏

وإذا تاب الغال - وهو الّذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة - قبل القسمة ردّ ما أخذه في المقسم بغير خلافٍ‏,‏ لأنّه حق تعيّن رده إلى أهله‏.‏

وإنّ التّوبة الّتي تسقط العقوبة عن قاطع الطّريق توجب ردّ المال على صاحبه إن كان أخذ المال لا غير‏,‏ مع العزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل‏.‏

مَظِنَّة

التّعريف

1 - المظنّة من الظّنّ وهو في اللغة‏:‏ اسم لما يحصل عن أمارةٍ ومتى قويت أدّت إلى العلم‏,‏ والظّن في الأصل خلاف اليقين‏,‏ وقد يستعمل بمعنى اليقين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ‏}‏‏.‏

والمظِنّة‏:‏ بكسر الظّاء للمَعْلّمِ وهو حيث يعلم الشّيء والجمع المظان ومظنّة الشّيء موضعه ومألفه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ المظنونات هي القضايا الّتي يحكم فيها حكماً راجحاً مع تجويز نقيضه‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمظنّة

المظنّة تقوم مقام اليقين عند الفقهاء ومن أمثلة ذلك‏:‏

مظنّة نقض الوضوء بزوال العقل

2 - إذا زال عقل المكلّف بنوم أو جنونٍ أو إغماءٍ أو سكرٍ أو نحوها‏,‏ فقد اتّفق الفقهاء على أنّ زوال العقل بأحد هذه الأمور من نواقض الوضوء‏,‏ لكونه مظنّةً لخروج شيءٍ من الدبر من غير شعورٍ به‏,‏ وذلك كما أشعر به قوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «العين وكاء السّه فمن نام فليتوضّأ»‏.‏

والمعنى‏:‏ أنّ اليقظة هي الحافظة لما يخرج‏,‏ والنّائم قد يخرج منه الشّيء ولا يشعر به فاعتبر النّوم ونحوه ناقضاً للوضوء مع أنّه قد لا يخرج من دبره شيء أثناء النّوم‏.‏

قال القرافي‏:‏ النّوم ليس حدثاً في نفسه فهو يوجب الوضوء لكونه مظنّة الرّيح للحديث السّابق‏.‏

مظنّة الشّهوة عند ملامسة الرّجل المرأة

3 - ذهب جمهور الفقهاء في الجملة إلى أنّ ملامسة الرّجل المرأة الأجنبيّة تنقض الوضوء‏,‏ لأنّها مظنّة الشّهوة فأقيمت المظنّة مقام اليقين وأعطيت حكمه‏,‏ لأنّها لا تنفك عنه غالباً‏,‏ وقيام المظنّة كعلّة لما ينقض الوضوء يشمل مسّ قبل الآدميّ بباطن الكفّ وقيامها كعلّة لوجوب الغسل يشمل التقاء الختانين‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏وضوء‏,‏ وغسل ف 5 وما بعدها‏)‏‏.‏

المظنّة في أحكام السّفر

4 - ذكر الفقهاء أنّ رخص السّفر كالمسح على الخفّين لمدّة ثلاثة أيّامٍ بلياليها‏,‏ وإباحة التّيمم لفقد الماء‏,‏ أو للخوف‏,‏ وقصر الصّلاة الرباعيّة‏,‏ وجمع الصّلوات الّتي يجوز جمعها‏,‏ وإفطار الصّائم‏,‏ وغير ذلك من الرخص الشّرعيّة المنوطة بالسّفر‏,‏ سواء كانت فيه مشقّة أو لم تكن‏,‏ لأنّ السّفر من أسباب المشقّة في الغالب‏,‏ قال صاحب كشف الأسرار‏:‏ حتّى لو تنزّه سلطان من بستانٍ إلى بستانٍ في خدمه وأعوانه لحقه مشقّة بالنّسبة إلى حال إقامته فلذلك اعتبر نفس السّفر سبباً للرخص وأقيم مقام المشقّة من غير نظرٍ إلى كونه موجباً للمشقّة أو غير موجبٍ لها‏.‏

المظنّة في الشّهادة والرّواية

5 - من الأحكام الّتي تقوم فيها المظنّة مقام اليقين قبول شهادة الشهود‏,‏ ورواية الرّاوين في بابي الشّهادة والرّواية‏,‏ مع أنّ الخبر المستفاد منها ظنّي‏,‏ وكلّما كان دلائل الصّدق أكثر كان آكد‏,‏ فالظّن المستفاد من أخبار أكابر الصّحابة رضي اللّه عنهم آكد من الظّنّ المستفاد من غيرهم من عدول الأزمان بعدهم‏,‏ ولا تشترط المساواة بينهم وبين عدول سائر القرون‏,‏ فإنّ ذلك يؤدّي إلى إغلاق باب الشّهادة والرّواية‏,‏ والخبر الصّادر من اثنين آكد ظناً وأقوى حسباناً من الخبر المستفاد من قول الواحد‏,‏ وكلّما كثر المخبرون كثر الظّن بكثرة عددهم إلى أن ينتهي خبرهم إلى إفادة العلم‏.‏

فأقيمت هذه المظنّة في الشّهادة والرّواية ونحوهما مقام اليقين‏,‏ لأنّ ذلك هو طريق الحكم‏,‏ فوجب العمل به‏,‏ مع أنّ الظنون في ذلك تتفاوت في القوّة والضّعف وهي أنواع كما قال العز بن عبد السّلام‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏

مَعَابِد

التّعريف

1 - المعابد في اللغة جمع معبَدٍ - بفتح الباء - وهو مكان العبادة ومحلها‏.‏

والعبادة مصدر عبَد - بفتح الباء - يقال‏:‏ عبد اللّه عبادةً وعبوديّةً‏:‏ انقاد له وخضع وذلّ‏,‏ والمتعبّد‏:‏ مكان التّعبد‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

المسجد‏:‏

2 - المسجد لغةً مفعل بكسر العين‏:‏ اسم لمكان السجود‏,‏ وبالفتح اسم للمصدر‏.‏

والمسجد شرعاً‏:‏ كل موضعٍ من الأرض‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»‏,‏ وخصّصه العرف بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس‏.‏

والصّلة بين المسجد والمعابد العموم والخصوص المطلق‏.‏

أقسام المعابد

مكان عبادة المسلمين هو المسجد والجامع والمصلّى والزّاوية‏.‏

وتفصيل أحكام ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏مسجد ف 1 - 4‏)‏‏.‏

وأمّا مكان عبادة غير المسلمين فله أقسام وتسميات مختلفة على النّحو التّالي‏:‏

أ - الكنيسة‏:‏

3 - تطلق الكنيسة عند بعض اللغويّين على متعبّد اليهود‏,‏ وتطلق أيضاً على متعبّد النّصارى‏,‏ وهي معرّبة‏.‏

ونصّ بعض الفقهاء كقاضي زاده وغيره على أنّ الكنيسة اسم لمعبد اليهود والنّصارى مطلقاً في الأصل‏,‏ ثمّ غلب استعمال الكنيسة لمعبد اليهود‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ وأهل مصر يطلقون الكنيسة على متعبّدهما‏.‏

وأورد البركتي أوجهاً أربعةً فقال‏:‏ الكنيسة‏:‏ متعبّد اليهود أو النّصارى‏,‏ أو الكفّار‏,‏ أو موضع صلاة اليهود فقط‏.‏

ونصّ زكريّا الأنصاري من الشّافعيّة على أنّ الكنيسة متعبّد النّصارى‏.‏

وقال الدسوقيّ‏:‏ الكنيسة‏:‏ متعبّد الكفّار‏,‏ سواء كانت بيعةً أو بيت نارٍ‏.‏

ب - البيعة‏:‏

4 - البِيعة - بكسر الباء - مفرد جمعه بِيع - بكسر الباء - مثل سدرةٍ وسدرٍ‏,‏ وهي متعبّد النّصارى‏,‏ وزاد الفخر الرّازيّ فقال‏:‏ وهي الّتي يبنونها في البلد‏.‏

وقال قاضي زاده من الحنفيّة‏:‏ إنّ البيعة اسم لمعبد اليهود مطلقاً‏,‏ ثمّ غلب استعمال البيعة لمعبد النّصارى‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ إنّ أهل اللغة والتّفسير على أنّ البيعة معبد النّصارى إلا ما حكيناه عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّه قال‏:‏ البيع مساجد اليهود‏.‏

ج - الصّومعة‏:‏

5 - قال ابن عابدين‏:‏ الصّومعة بيت يبنى برأس طويلٍ ليتعبّد فيه بالانقطاع عن النّاس‏,‏ وذكر الفخر الرّازيّ‏:‏ أنّ الصّوامع للنّصارى وهي الّتي بنوها في الصّحاري‏,‏ وقيل‏:‏ الصّوامع للصّابئين‏.‏

د - الدّير‏:‏

6 - الدّير مقام الرهبان والرّاهبات من النّصارى‏,‏ ويجتمعون فيه للرّهبانيّة والتّفرد عن النّاس‏,‏ ويجمع على ديورةٍ مثل‏:‏ بعلٍ وبعولةٍ‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ وأهل مصر والشّام يخصون الدّير بمعبد النّصارى‏.‏

هـ - الفُهُر‏:‏

7 - الفهر بضمّ الفاء والهاء جمع‏,‏ ومفردها فُهْر‏,‏ لليهود خاصّةً‏,‏ وهو بيت المدراس الّذي يتدارسون فيه العلم‏,‏ وفيه قول أنسٍ رضي اللّه تعالى عنه‏:‏ وكأنّهم اليهود حين خرجوا من فهرهم‏.‏

و - الصّلوات‏:‏

8 - الصّلوات كنائس اليهود‏,‏ قال الزّجّاج وهي بالعبريّة ‏"‏ صلوتا ‏"‏‏,‏ وقيل‏:‏ للنّصارى‏,‏ وقيل‏:‏ للصّابئين‏.‏

ز - بيت النّار والنّاووس‏:‏

9 - بيت النّار‏:‏ هو موضع عبادة المجوس‏.‏

وأمّا النّاووس فقال اللغويون‏:‏ النّاووس مقابر النّصارى‏,‏ أو صندوق من خشبٍ أو نحوه يضع فيه النّصارى جثّة الميّت‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ النّاووس للمجوس كالكنيسة للنّصارى‏,‏ وهو من خصائص دينهم الباطل‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمعابد

10 - لا يفرّق الفقهاء بين الكنيسة والبيعة‏,‏ والصّومعة‏,‏ وبيت النّار‏,‏ والدّير وغيرها في الأحكام‏,‏ والأصل في هذا ما ورد في كتاب عمر رضي اللّه عنه لمّا صالح نصارى الشّام كتب إليهم كتاباً‏:‏ ‏"‏ إنّهم لا يبنون في بلادهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسةً ولا صومعة راهبٍ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏

وقال الدسوقيّ في كراهة الصّلاة فيها‏:‏ وتكره الصّلاة بمتعبّد الكفّار سواء كان كنيسةً أو بيعةً‏,‏ أو بيت نارٍ‏.‏

وقال البهوتي وابن قدامة في الوقف‏:‏ ولا يصح الوقف على كنائس‏,‏ وبيوت نارٍ‏,‏ وبيعٍ وصوامع‏,‏ وديورةٍ ومصالحها‏.‏

ونصّ ابن القيّم بعد ذكر جميع أنواع المعابد على أنّ‏:‏ حكم هذه الأمكنة كلّها حكم الكنيسة‏,‏ وينبغي التّنبيه عليها‏.‏

وتفصيل الأحكام المتعلّقة بالمعابد على النّحو التّالي‏:‏

إحداث المعابد في أمصار المسلمين

11 - يختلف حكم إحداث المعابد في أمصار المسلمين باختلاف الأمصار على النّحو التّالي‏:‏ أ - ما اختطّه المسلمون كالكوفة والبصرة‏,‏ فلا يجوز فيها إحداث كنيسةٍ ولا بيعةٍ ولا مجتمعٍ لصلاتهم ولا صومعةٍ بإجماع أهل العلم‏.‏

ب - ما فتحه المسلمون عنوةً‏,‏ فلا يجوز فيه إحداث شيءٍ بالاتّفاق لأنّه صار ملكاً للمسلمين‏,‏ واختلفوا في هدم ما كان فيه كما يأتي فيما بعد‏.‏

ج - ما فتحه المسلمون صلحاً‏:‏ فإن صالحوهم على أنّ الأرض لهم والخراج لنا جاز الإحداث عند جمهور الفقهاء‏,‏ وإن صالحوهم على أنّ الدّار لنا ويؤدون الجزية فلا يجوز الإحداث إلا إذا شرطوا ذلك‏,‏ وإن وقع الصلح مطلقاً لا يجوز الإحداث عند جمهور الفقهاء‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏أهل الذّمّة ف 24 - 25‏)‏‏.‏

هدم المعابد القديمة

12 - المراد من المعابد القديمة ما كانت قبل فتح الإمام بلد الكفّار ومصالحتهم على إقرارهم على بلدهم وعلى دينهم‏,‏ ولا يشترط أن تكون في زمن الصّحابة رضي اللّه تعالى عنهم أو التّابعين لا محالة‏.‏

ويختلف حكم المعابد القديمة باختلاف مواقعها على النّحو التّالي‏:‏

أ - المعابد القديمة في المدن الّتي أحدثها المسلمون‏:‏

13 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ البيع والكنائس القديمة في السّواد والقرى لا يتعرّض لها ولا يهدم شيء منها‏,‏ قال الكمال بن الهمام‏:‏ إنّ البيع والكنائس في السّواد لا تهدم على الرّوايات كلّها‏,‏ وأمّا في الأمصار فاختلف كلام محمّدٍ‏,‏ فذكر في العشر والخراج‏:‏ تهدم القديمة‏,‏ وذكر في الإجارة‏:‏ لا تهدم، وعمل النّاس على هذا‏,‏ فإنّا رأينا كثيراً منها توالت عليها أئمّة وأزمان وهي باقية لم يأمر إمام بهدمها‏,‏ فكان متوارثاً من عهد الصّحابة رضي اللّه تعالى عنهم‏.‏

وعلى هذا لو مصّرنا برّيّةً فيها دير أو كنيسة فوقع داخل السور ينبغي أن لا يهدم‏,‏ لأنّه كان مستحقاً للأمان قبل وضع السور‏,‏ فيحمل ما في جوف القاهرة من الكنائس على ذلك لأنّها كانت فضاءً فأدار العبيديون عليها السور‏,‏ ثمّ فيها الآن كنائس‏,‏ ويبعد من إمام تمكين الكفّار من إحداثها جهاراً في جوف المدن الإسلاميّة‏,‏ فالظّاهر أنّها كانت في الضّواحي‏,‏ فأدير السور عليها فأحاط بها‏,‏ وعلى هذا فالكنائس الموضوعة الآن في دار الإسلام - غير جزيرة العرب - كلها ينبغي أن لا تهدم‏,‏ لأنّها إن كانت في أمصارٍ قديمةٍ‏,‏ فلا شكّ أنّ الصّحابة أو التّابعين حين فتحوا المدينة علموا بها وأبقوها‏,‏ وبعد ذلك ينظر فإن كانت البلدة فتحت عنوةً حكمنا بأنّها بقوها مساكن لا معابد فلا تهدم‏,‏ ولكن يمنعون من الاجتماع فيها للتّقرب‏,‏ وإن عرف أنّها فتحت صلحاً حكمنا بأنّهم أقروها معابد فلا يمنعون من الاجتماع فيها بل من الإظهار‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ الكنائس القديمة تترك لأهل الذّمّة فيما اختطّه المسلمون فسكنوه معهم‏,‏ وقال عبد الملك‏:‏ لا يجوز الإحداث مطلقاً ولا يترك لهم كنيسةً‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الّذي يوجد في البلاد الّتي أحدثها المسلمون من البيع والكنائس وبيوت النّار وجهل أصله لا ينقض لاحتمال أنّها كانت قريةً أو بريّةً فاتّصل بها عمران ما أحدث منّا‏,‏ بخلاف ما لو علم إحداث شيءٍ منها بعد بنائها فإنّه يلزمنا هدمه إذا بني للتّعبد‏,‏ وإن بني لنزول المارّة‏:‏ فإن كان لعموم النّاس جاز‏,‏ وكذلك إذا كان لأهل الذّمّة فقط كما جزم به ابن الصّبّاغ‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ الكنائس الّتي في البلاد الّتي مصّرها المسلمون وأحدثت بعد تمصير المسلمين لها تزال‏,‏ وما كان موجوداً بفلاة من الأرض ثمّ مصر المسلمون حولها المصر فهذه لا تزال‏.‏

ب - المعابد القديمة فيما فتح عنوةً‏:‏

14 - ذهب المالكيّة وهو وجه عند الحنابلة وقول للشّافعيّة في مقابل الأصحّ إلى أنّ المعابد القديمة فيما فتح عنوةً لا يجب هدمه‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأصحّ وهو وجه عند الحنابلة إلى أنّه يجب هدمه‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا تهدم ولكن تبقى بأيديهم مساكن‏,‏ ويمنعون من الاجتماع فيها للتّقرب‏.‏

ج - المعابد القديمة فيما فتح صلحاً‏:‏

15 - الأراضي المفتوحة صلحاً ثلاثة أنواعٍ‏:‏

النّوع الأوّل‏:‏ أن يصالحهم الإمام على أن تكون الأرض لنا فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ أن يصالحهم الإمام على أن تكون الأرض لهم ويؤدوا عنها خراجاً‏,‏ فهذا ممّا لا يتعرّض للمعابد القديمة فيها دون خلافٍ‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ أن يقع الصلح مطلقاً‏:‏ فذهب الشّافعيّة في مقابل الأصحّ‏,‏ والحنابلة‏,‏ وهو المفهوم من كلام الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يتعرّض للقديمة وهذا لحاجتهم إليها في عبادتهم كما علّله الشّافعيّة‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّها لا تبقى‏,‏ لأنّ إطلاق اللّفظ يقتضي ضرورة جميع البلد لنا‏.‏

إعادة المنهدم

16 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة على الأصحّ وهو رواية عن أحمد إلى أنّه إذا انهدمت الكنيسة - الّتي أقرّ أهلها عليها - فللذّمّيّين إعادتها‏,‏ لأنّ الأبنية لا تبقى دائماً‏,‏ ولمّا أقرّهم الإمام على إبقائها قبل الظهور عليهم وصالحهم عليه فقد عهد إليهم الإعادة‏,‏ ولأنّ ذلك ليس بإحداث‏,‏ والمراد بالإعادة أن تكون من غير زيادةٍ على البناء الأوّل كما نصّ عليه الحنفيّة أي‏:‏ لا يبنون ما كان باللّبن بالآجرّ‏,‏ ولا ما كان بالآجرّ بالحجر ولا ما كان بالجريد وخشب النّخل بالنّقى والسّاج‏,‏ ولا بياضاً لم يكن‏.‏

قالوا‏:‏ وللإمام أن يخرّبها إذا وقف على بيعةٍ جديدةٍ‏,‏ أو بني منها فوق ما كان في القديم‏,‏ وكذا ما زاد في عمارتها العتيقة‏.‏

وإذا جاز لهم إعادة بنائها فإنّ لهم ذلك من غير توسيعٍ على خطّتها‏,‏ كما نصّ عليه الشّافعيّة في الصّحيح من المذهب‏,‏ لأنّ الزّيادة في حكم كنيسةٍ محدثةٍ متّصلةٍ بالأولى‏,‏ وقيل‏:‏ المراد بالإعادة الإعادة لما تهدّم منها لا بآلات جديدةٍ‏,‏ والمراد بالمهدم كما ذكره ابن عابدين نقلاً عن الأشباه‏:‏ ما انهدم‏,‏ وليس ما هدمه الإمام‏,‏ لأنّ في إعادتها بعد هدم المسلمين استخفافاً بهم وبالإسلام‏,‏ وإخماداً لهم وكسراً لشوكتهم‏,‏ ونصراً للكفر وأهله‏,‏ ولأنّ فيه افتياتاً على الإمام فيلزم فاعله التّعزير‏,‏ وبخلاف ما إذا هدموها بأنفسهم فإنّها تعاد‏.‏

وذهب الحنابلة‏,‏ والإصطخري وابن أبي هريرة من الشّافعيّة إلى أنّه ليس لهم ذلك‏,‏ وعلّله الحنابلة فقالوا‏:‏ لأنّه كبناء كنيسةٍ في دار الإسلام‏.‏

ترميم المعابد

17 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة إلى أنّه لا يمنع أهل الذّمّة من رمّ ما تشعّث من الكنائس والبيع ونحوها الّتي أقرّ أهلها عليها وإصلاحها‏,‏ لأنّ المنع من ذلك يفضي إلى خرابها وذهابها‏,‏ فجرى مجرى هدمها‏.‏

وزاد الشّافعيّة في وجهٍ‏:‏ بأنّه يجب إخفاء العمارة لأنّ إظهارها زينة تشبه الاستحداث‏.‏ والوجه الثّاني وهو الأصح أنّه لا يجب إخفاء العمارة فيجوز تطيينها من الدّاخل والخارج‏.‏ والمعتمد عند المالكيّة أنّهم يمنعون من رمّ المنهدم في العنويّ - ما فتح عنوةً - وفي الصلحيّ عند بعضهم‏.‏

نقل المعبد من مكانٍ إلى آخر

18 - اختلف الفقهاء في نقل المعبد من مكانٍ إلى مكانٍ آخر على أقوالٍ على النّحو التّالي‏:‏ ذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس لأهل الذّمّة أن يحوّلوا معابدهم من موضعٍ إلى موضعٍ آخر‏,‏ لأنّ التّحويل من موضعٍ إلى موضعٍ آخر في حكم إحداث كنيسةٍ أخرى‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ الظّاهر أنّهم لو شرطوا النّقل في العقد يجوز وإلا فلا‏.‏

وفصّل ابن القيّم الكلام عليه فقال‏:‏ والّذي يتوجّه أن يقال‏:‏ إن منعنا إعادة الكنيسة إذا انهدمت‏,‏ منعنا نقلها بطريق الأولى‏,‏ فإنّها إذا لم تعد إلى مكانها الّذي كانت عليه فكيف تنشأ في غيره‏؟‏ وإن جوّزنا إعادتها فكان نقلها من ذلك المكان أصلح للمسلمين‏,‏ لكونهم ينقلونها إلى موضعٍ خفيٍّ لا يجاوره مسلم‏,‏ ونحو ذلك جائز بلا ريبٍ‏,‏ فإنّ هذا مصلحة ظاهرة للإسلام والمسلمين فلا معنى للتّوقف فيه‏,‏ وأمّا إن كان النّقل لمجرّد منفعتهم‏,‏ وليس للمسلمين فيه منفعة فهذا لا يجوز‏,‏ لأنّه إشغال رقبة أرض الإسلام بجعلها دار كفرٍ‏,‏ فهو كما لو أرادوا جعلها خمّارةً أو بيت فسقٍ‏.‏

فلو انتقل الكفّار عن محلّتهم وأخلوها إلى محلّةٍ أخرى فأرادوا نقل الكنيسة إلى تلك المحلّة‏,‏ وإعطاء القديمة للمسلمين فهو على هذا الحكم‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا نقل الإمام النّصارى المعاهدين من مكانهم إلى مكانٍ آخر يباح لهم في

هذه الحالة بنيان بيعةٍ واحدةٍ لإقامة شرعهم ويمنعون من ضرب النّواقيس فيها‏.‏

اعتقاد الكنيسة بيت اللّه واعتقاد زيارتها قربةً

19 - نصّ الشّيخ تقي الدّين من الحنابلة على أنّ من اعتقد أنّ الكنائس بيوت اللّه أو أنّه يعبد فيها‏,‏ أو أنّه يحب ذلك ويرضاه فهو كافر لأنّه يتضمّن اعتقاد صحّة دينهم‏,‏ وذلك كفر‏,‏ أو أعانهم على فتح الكنائس وإقامة دينهم‏,‏ واعتقد ذلك قربةً أو طاعةً‏,‏ وكذلك من اعتقد أنّ زيارة أهل الذّمّة كنائسهم قربةً إلى اللّه فهو مرتد‏.‏

الصّلاة في معابد الكفّار

20 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه تكره الصّلاة في معابد الكفّار إذا دخلها مختاراً‏,‏ أمّا إن دخلها مضطراً فلا كراهة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ تجوز الصّلاة فيها من غير كراهةٍ على الصّحيح من المذهب‏,‏ وروي عن أحمد تكره‏,‏ وفي روايةٍ أخرى عنه مع الصور‏,‏ وقال الكاساني من الحنفيّة‏:‏ لا يمنع المسلم أن يصلّي في الكنيسة من غير جماعةٍ‏,‏ لأنّه ليس فيه تهاون بالمسلمين ولا استخفاف بهم‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة ف 105‏,‏ دخول ف 12‏)‏‏.‏

النزول في الكنائس

21 - نصّ بعض الفقهاء على أنّه يستحب للإمام أن يشترط على أهل الذّمّة في عقد الصلح منزل الضّيفان من كنيسةٍ‏,‏ كما صالح عمر أهل الشّام على ذلك‏,‏ فقد ورد في صلحه‏:‏ ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في اللّيل والنّهار وأن نوسّع أبوابها للمارّة وابن السّبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً‏.‏

دخول المسلم معابد الكفّار

22 - اختلف الفقهاء في جواز دخول المسلم معابد الكفّار على أقوالٍ‏:‏

ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره للمسلم دخول البيعة والكنيسة‏,‏ لأنّه مجمع الشّياطين‏,‏ لا من حيث إنّه ليس له حق الدخول‏.‏

ويرى المالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة أنّ للمسلم دخول بيعةٍ وكنيسةٍ ونحوهما‏.‏

وقال بعض الشّافعيّة في رأيٍ آخر‏:‏ إنّه لا يجوز للمسلم دخولها إلا بإذنهم‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏دخول ف 12‏)‏‏.‏

الإذن في دخول الكنيسة والإعانة عليه

23 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ للزّوج منع زوجته الذّمّيّة من دخول الكنيسة ونحوها‏.‏

ووجه ذلك عند الحنابلة‏:‏ أن لا يعينها على أسباب الكفر وشعائره ولا يأذن لها فيه‏.‏

وعلّله الشّافعيّة‏:‏ بأنّه إذا كان له منع المسلمة من إتيان المساجد فمنع الذّمّيّة من الكنيسة أولى‏.‏

وعند المالكيّة قولان كما ذكرهما الحطّاب‏:‏ قال في المدوّنة‏:‏ ليس له منعها من ذلك‏,‏ وفي كتاب ابن الموّاز‏:‏ له منعها من الكنيسة إلا في الفرض‏.‏

وأمّا الجارية النّصرانيّة فقد نصّ الحنابلة على أنّه إن سألت الخروج إلى أعيادهم وكنائسهم وجموعهم لا يأذن لها في ذلك‏.‏

ونصّ المالكيّة على أنّ المسلم لا يمنع مكاتبه النّصرانيّ من إتيان الكنيسة‏,‏ لأنّ ذلك دينهم‏,‏ إذ لا تحجير له عليه‏.‏

ونصّ الحنفيّة على أنّه لو سأل ذمّي مسلماً على طريق البيعة لا ينبغي للمسلم أن يدلّه على ذلك‏,‏ لأنّه إعانة على المعصية‏,‏ وأيضاً‏:‏ مسلم له أم ذمّيّة أو أب ذمّي ليس له أن يقوده إلى البيعة‏,‏ وله أن يقوده من البيعة إلى المنزل‏.‏

ملاعنة الذّمّيّين في المعابد

24 - ذهب المالكيّة إلى أنّه يجب أن يكون لعان الذّمّيّة في كنيستها‏,‏ واليهوديّة في بيعتها‏,‏ والمجوسيّة في بيت النّار‏.‏

وقال الشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة باستحباب لعان الزّوجة الكتابيّة في الكنيسة وحيث تعظّم‏,‏ وإذا كان الزّوجان كتابيّين لاعن الحاكم بينهما في الكنيسة وحيث يعظّمان‏.‏

وقال القاضي من الحنابلة‏:‏ يستحب التّغليظ بالمكان‏.‏

وأمّا الحنفيّة‏:‏ فلا يتأتّى ذلك عندهم لأنّهم يشترطون الإسلام في اللّعان‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏لعان ف 32 وما بعدها‏)‏‏.‏

وقوع اسم البيت على المعابد

25 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه إن حلف شخص لا يدخل بيتاً فدخل كنيسةً أو بيعةً لا يحنث‏,‏ وهو المفهوم من كلام المالكيّة‏,‏ لعدم إطلاق اسم البيت عرفاً لأنّ البيت اسم لما يبات فيه‏,‏ وأعدّ للبيتوتة وهذا المعنى معدوم في الكنيسة‏.‏

بيع عرصة كنيسةٍ‏:‏

26 - قال ابن شاسٍ من المالكيّة‏:‏ لو باع أسقف الكنيسة عرصةً من الكنيسة أو حائطاً جاز ذلك إن كان البلد صلحاً‏,‏ ولم يجز إن كان البلد عنوةً‏,‏ لأنّها وقف بالفتح‏,‏ وعلّله ابن رشدٍ فقال‏:‏ لأنّه لا يجوز لهم بيع أرض العنوة‏,‏ لأنّ جميعها فيء للّه على المسلمين‏:‏ الكنائس وغيرها‏.‏

وأمّا أرض الصلح فاختلف قول ابن القاسم في أرض الكنيسة تكون عرصة الكنيسة أو حائطاً فيبيع ذلك أسقف أهل تلك البلدة هل للرّجل أن يتعمّد الشّراء‏,‏ فأجاز شراء ذلك في سماع عيسى‏,‏ ومنعه في سماع أصبغ‏.‏

بيع أرضٍ أو دارٍ لتتّخذ كنيسةً

27 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه يمنع المسلم من بيع أرضٍ أو دارٍ لتتّخذ كنيسةً‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ إن اشتروا دوراً في مصرٍ من أمصار المسلمين فأرادوا أن يتّخذوا داراً منها كنيسةً أو بيعةً أو بيت نارٍ في ذلك لصلواتهم منعوا عن ذلك‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يمنع أي يحرم بيع أرضٍ لتتّخذ كنيسةً وأجبر المشتري من غير فسخٍ للبيع على إخراجه من ملكه ببيع أو نحوه‏.‏

روى الخلال عن المروذيّ أنّ أبا عبد اللّه سئل عن رجلٍ باع داره من ذمّيٍّ وفيها محاريب فاستعظم ذلك وقال‏:‏ نصراني‏؟‏ ‏!‏ ‏!‏ لا تباع، يضرب فيها النّاقوس وينصب فيها الصلبان‏؟‏ وقال‏:‏ لا تباع من الكافر وشدّد في ذلك‏.‏

وعن أبي الحارث أنّ أبا عبد اللّه سئل عن الرّجل يبيع داره وقد جاء نصراني فأرغبه وزاده في ثمن الدّار‏,‏ ترى أن يبيع منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي‏,‏ قال‏:‏ لا أرى له ذلك‏,‏ قال‏:‏ ولا أرى أن يبيع داره من كافرٍ يكفر فيها باللّه تعالى‏.‏

استئجار أهل الذّمّة داراً لاتّخاذها كنيسةً

28 - إذا اشترى أو استأجر ذمّي داراً على أنّه سيتّخذها كنيسةً فالجمهور على أنّ الإجارة فاسدة‏,‏ أمّا إذا استأجرها للسكنى ثمّ اتّخذها معبداً فالإجارة صحيحة‏,‏ ولكن للمسلمين عامّةً منعه حسبةً‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏إجارة ف 98‏)‏‏.‏

جعل الذّمّي بيته كنيسةً في حياته

29 - نصّ الحنفيّة على أنّه لو جعل ذمّي داره بيعةً أو كنيسةً أو بيت نارٍ في صحّته‏,‏ فمات فهو ميراث اتّفاقاً بين الإمام وصاحبيه واختلفوا في التّخريج‏:‏ فعنده لأنّه كوقف لم يسجّل‏,‏ والمراد أنّه يورث كالوقف‏,‏ وليس المراد أنّه إذا سجّل لزم كالوقف‏,‏ وأمّا عندهما فلأنّه معصية‏.‏

عمل المسلم في الكنيسة

30 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز للمسلم أن يعمل لأهل الذّمّة في الكنيسة نجّاراً أو بناءً أو غير ذلك‏,‏ لأنّه إعانة على المعصية‏,‏ ومن خصائص دينهم الباطل‏,‏ ولأنّه إجارة تتضمّن تعظيم دينهم وشعائرهم‏,‏ وزاد المالكيّة بأنّه يؤدّب المسلم إلا أنّ يعتذر بجهالة‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه لو آجر نفسه ليعمل في الكنيسة ويعمرها لا بأس به لأنّه لا معصية في عين العمل‏.‏

ضرب النّاقوس في المعابد

31 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يمنع أهل الذّمّة من إظهار ضرب النّواقيس في معابدهم في الجملة‏,‏ وأنّه لا بأس بإخفائها وضربها في جوف الكنائس‏,‏ واختلفوا في التّفاصيل‏:‏

فقال الحنفيّة‏:‏ لو ضربوا النّاقوس في جوف كنائسهم القديمة لم يتعرّض لذلك لأنّ إظهار الشّعائر لم يتحقّق‏,‏ فإن ضربوا به خارجاً منها لم يمكّنوا لما فيه من إظهار الشّعائر‏,‏ ولا يمنعون من ضرب النّاقوس في قريةٍ أو موضعٍ ليس من أمصار المسلمين‏,‏ ولو كان فيه عدد كثير من أهل الإسلام‏,‏ وإنّما يكره ذلك في أمصار المسلمين وهي الّتي تقام فيها الجمع والأعياد والحدود‏.‏

وكذلك الحكم في إظهار صليبهم‏,‏ لو فعلوا ذلك في كنائسهم لا يتعرّض لهم‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يمنع أهل الذّمّة من ضرب النّواقيس فيها‏.‏

قال ابن جزيٍّ‏:‏ عليهم إخفاء نواقيسهم‏.‏

وقال الشّافعيّة يمنعون من ضرب النّاقوس في الكنيسة‏,‏ وقيل‏:‏ لا يمنعون تبعاً لكنيسة‏,‏ قال النّووي‏:‏ وهذا الخلاف في كنيسة بلدٍ صالحناهم على أنّ أرضه لنا‏,‏ فإن صالحناهم على أنّ الأرض لهم فلا منع قطعاً‏,‏ قال‏:‏ وقال إمام الحرمين‏:‏ وأمّا ناقوس المجوس فلست أرى فيه ما يوجب المنع‏,‏ وإنّما هو محوّط وبيوت يجمع فيها المجوس جيفهم‏,‏ وليس كالبيع والكنائس فإنّها تتعلّق بالشّعار‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه يلزم أهل الذّمّة الكف عن إظهار ضرب النّواقيس‏,‏ سواء شرط عليهم أو لم يشرط‏.‏

وأجازوا الضّرب الخفيف في جوف الكنائس‏.‏

الوقف على المعابد

32 - اختلف الفقهاء في الوقف على المعابد على أقوالٍ كما يلي‏:‏

ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يصح وقف المسلم على بيعةٍ لعدم كونه قربةً في ذاته‏,‏ وكذلك لا يصح وقف الذّمّيّ لعدم كونه قربةً عندنا‏.‏

قال ابن عابدين نقلاً عن الفتح‏:‏ هذا إذا لم يجعل آخره للفقراء‏,‏ فلو وقف الذّمّي على بيعةٍ مثلاً فإذا خربت تكون للفقراء‏,‏ كان للفقراء ابتداءً‏,‏ ولو لم يجعل آخره للفقراء كان ميراثاً عنه‏,‏ كما نصّ عليه الخصّاف ولم يحك فيه خلافاً‏.‏

واختلف المالكيّة على ثلاثة أقوالٍ‏:‏

ففي المعتمد عندهم لا يجوز وقف الذّمّيّ على الكنيسة مطلقاً‏,‏ سواء كان لعبّادها أو لمرمّتها‏,‏ وسواء كان الواقف مسلماً أو كافراً‏.‏

وفصّل ابن رشدٍ فقال‏:‏ إنّ وقف الكافر على الكنيسة باطل لأنّه معصية‏,‏ أمّا الوقف على مرمّتها أو على الجرحى أو المرضى الّذين فيها فالوقف صحيح معمول به‏.‏

وهناك قول ثالث قال به عياض وهو‏:‏ أنّ الوقف على الكنيسة مطلقاً صحيح غير لازمٍ‏,‏ سواء أشهدوا على ذلك أم لا‏,‏ وسواء خرج الموقوف من تحت يد الواقف أم لا‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يصح الوقف على الكنائس الّتي للتّعبد‏,‏ ولو كان الوقف من ذمّيٍّ‏,‏ وسواء فيه إنشاء الكنائس وترميمها‏,‏ منعنا التّرميم أو لم نمنعه‏,‏ لأنّه إعانة على المعصية‏,‏ وكذلك لا يجوز الوقف على حصرها‏,‏ أو الوقود بها أو على ذمّيٍّ خادمٍ لكنيسة للتّعبد‏.‏

ويجوز الوقف على كنيسةٍ تنزلها المارّة‏,‏ أو موقوفة على قومٍ يسكنونها‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يصح الوقف على كنائس وبيوت نارٍ‏,‏ وصوامع‏,‏ وديورةٍ ومصالحها كقناديلها وفرشها ووقودها وسدنتها‏,‏ لأنّه معونة على معصيةٍ ولو كان الوقف من ذمّيٍّ‏.‏ ويصح الوقف على من ينزلها من مارٍّ ومجتازٍ بها فقط‏,‏ لأنّ الوقف عليهم لا على البقعة‏,‏ والصّدقة عليهم جائزة‏.‏

الوصيّة لبناء المعابد وتعميرها

33 - اختلف الفقهاء في جواز الوصيّة لبناء الكنيسة أو تعميرها أو نحوهما على أقوالٍ كما يلي‏:‏

ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا أوصى الذّمّي أن تبنى داره بيعةً أو كنيسةً فإذا كانت الوصيّة لمعيّنين أي‏:‏ معلومين يحصى عددهم فهو جائز من الثلث اتّفاقاً بينهم‏,‏ لأنّ الوصيّة فيها معنى الاستخلاف ومعنى التّمليك‏,‏ وللذّمّيّ ولاية ذلك فأمكن تصحيحه على اعتبار المعنيين‏,‏ ولكن لا يلزمهم جعلها كنيسةً ويجعل تمليكاً‏,‏ ولهم أن يصنعوا به ما شاءوا‏.‏

وأمّا إن أوصى لقوم غير مسمّين صحّت الوصيّة عند أبي حنيفة‏,‏ لأنّهم يتركون وما يدينون‏,‏ فتصح لأنّ هذا قربة في اعتقادهم‏,‏ ولا يصح عند الصّاحبين‏,‏ لأنّه معصية‏,‏ والوصيّة بالمعاصي لا تصح لما في تنفيذها من تقريرها‏.‏

وهذا الخلاف فيما إذا أوصى ببناء بيعةٍ أو كنيسةٍ في القرى‏,‏ فأمّا في المصر فلا يجوز بالاتّفاق بينهم‏,‏ لأنّهم لا يمكّنون من إحداث ذلك في الأمصار‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن أوصى نصراني بماله لكنيسة ولا وارث له دفع الثلث إلى الأسقف يجعله حيث ذكره‏,‏ والثلثان للمسلمين‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تصح الوصيّة لكنيسة ولا لحصرها‏,‏ ولا لقناديلها ونحوه‏,‏ ولا لبيت نارٍ ولا لبيعة ولا صومعةٍ ولا لدير ولا لإصلاحها وشغلها وخدمتها‏,‏ ولا لعمارتها ولو من ذمّيٍّ‏,‏ لأنّ ذلك إعانة على معصيةٍ‏,‏ ولأنّ المقصود من شرع الوصيّة تدارك ما فات في حال الحياة من الإحسان‏,‏ فلا يجوز أن تكون في جهة معصيةٍ‏.‏

وقيّد الشّافعيّة عدم جواز الوصيّة بما إذا كانت الكنيسة للتّعبد فيها‏,‏ بخلاف الكنيسة الّتي تنزلها المارّة أو موقوفةً على قومٍ يسكنونها‏,‏ أو جعل كراءها للنّصارى أو للمسلمين جازت الوصيّة‏,‏ لأنّه ليس في بنيان الكنيسة معصية إلا أن تتّخذ لمصلّى النّصارى الّذين اجتماعهم فيها على الشّرك‏.‏

قال النّووي‏:‏ وعدوا من الوصيّة بالمعصية ما إذا أوصى لدهن سراج الكنيسة‏,‏ لكن قيّد الشّيخ أبو حامدٍ‏:‏ المنع بما إذا قصد تعظيم الكنيسة‏,‏ أمّا إذا قصد تعظيم المقيمين أو المجاورين بضوئها فالوصيّة جائزة‏,‏ كما لو أوصى بشيء لأهل الذّمّة‏.‏

حكم المعابد بعد انتقاض العهد

34 - قال ابن القيّم‏:‏ متى انتقض عهد أهل الذّمّة جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلاً عن كنائس العنوة‏,‏ كما أخذ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما كان لقريظة والنّضير لمّا نقضوا العهد‏,‏ فإنّ ناقض العهد أسوأ حالاً من المحارب الأصليّ‏,‏ ولذلك لو انقرض أهل مصرٍ من الأمصار ولم يبق من دخل في عهدهم فإنّه يصير جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئاً للمسلمين‏.‏